3 يوليو 2023
أمامة أحمد عكوش – كاتب سوري
وحدها المعجزات.. لا تخضعُ لمقاربةٍ، ووحدها.. غير قابلةٍ للوصف، ولكن.. سنحاول!. إن اجتمعت الملائكة لتُغني، لشكَّلَ صوتها معاً.. صوته وحده، جبروتٌ ورقِّة في آن .. لا تخطر الأرزة في البال، إلا وتَحِنُّ الأذن لصوته، فكلُّ ما به يشبه الأرز، أجل.. يشبهه، حنجرة جذلة ونادرة، كجذع الأرز، والرَّأس في السَّماء كما الأغصان، حنونٌ رقيقٌ رشيقٌ، كأوراق الأرز، فهو مطرب الأرز .. لا تُذْكَرُ جبال لبنان، إلَّا ويخطر في البال اسمه، فهو صوت الجبل، وقدِّيس الطَّرب، وعملاق لبنان .. صاحب الحنجرة الذَّهبيّة.. لا بل الاستثنائيّة، هو أديب الفنِّ العربيِّ، وواحد من آخر عمالقة الفنِّ الجميل، وأقوى أصوات الرِّجال في العالم العربيّ، صوت مداه “ديوانان ونصف ديوان .. ثمانية عشرة مقاماً”، المتمكّن بصوته من أقصى الحِدَّة إلى أقصى الغِلْظ، صاحب “المدرسة الصَّافِيَّة”، الصَّوت الصَّافي وديع الصَّافي.
ولادة .. فقر
في قرية نيحا بقضاء الشُّوف اللبناني، في الأوّل من تشرين الثَّاني/نوفمبر من عام 1921 كانت صرخة حياة وديع فرنسيس الأولى، الابن الثّاني لعائلة تضم ثمانية أبناء، للأب بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، الذي كان رقيباً في الدَّرك اللبناني. لم يكُ قد أكمل نطقه، عندما أُذْهِلَ خاله بقوة صوتهِ ونقاوته. ليشجعه مع جدِّه الذي قال له: “صوتك ما في متله بالأرض، ورح يخليك مشهور”، وحتماً.. لم يكُ حينها واعياً لما تعنيه كلمة “مشهور”، ولربَّما ما فحوى كلمة “صوت”. في طفولة يغلب عليها الفقر عاش وديع فرنسيس، لتقصد العائلة عام 1930 بيروت بحثاً عن تحسين الحال، فدخل وديع مدرسة دير المخلِّص وأصبح المنشد الأوَّل فيها، بعدها بثلاث سنوات اضطُّر للتَّوقف عن الدِّراسة، لأن جو الموسيقى كان يطغى على أفكاره من جهة، ولكي يساعد والده في إعالة العائلة من جهة أخرى، حيث تقاضى أوّل أجر فنّي، وكان ثماني ليرات ذهبيَّة من والدة الزَّعيم الرّاحل كمال جنبلاط “السّت نظيرة”، لقاء غنائه لها وهي مريضة.
أيضاً.. ولادة!
ولادته الثَّانية كانت عام 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناءً وعزفاً، من بين أربعين متبارياً، في مباراة للإذاعة اللبنانيَّة أيام الانتداب الفرنسيّ، عن أغنية “يا مرسل النَّغم الحنون” للشَّاعر غير المشهور آنذاك “الأب نعمة الله حبيقة”، وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من (ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب، ورئيس الإذاعة اللبنانية آنذاك “محيي سلام”)، والذي عاد إلى بيته ودموع الفرح على وجنتيّه، لكونه شهد ولادة موهبة لبنانية بوزن وديع فرنسيس، الذي أطلقت اللجنة عليه اسم “وديع الصَّافي” نسبة إلى صفاء صوته.
التُّراث المشرقيّ ..
بعد الولادة الثَّانية للصَّافي، كان اختياره أن تكون إذاعة الشَّرق الأدنى، بمثابة معهد موسيقيٍّ تتلمذ فيه، على يدِّ ميشال خياط وسليم الحلو، اللذين كان لهما الأثر الكبير في “تكوين شخصيّته الفنيَّة” حسبما أكدَّ في أكثر من مناسبة، كما قال في أحد لقاءاته عن بداياته: “قالوا عنِّي في بداياتي أنِّي مطرب العنزة والسُّطوح والقرميد .. ولم أكترث”، كما اختار أن يبدأ مسيرته الفنيَّة، بشقِّ الطَّريق عبر الأغنية اللبنانيّة، والتي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة من قبله، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية فلكلوريّة وحياتيّة ومعيشيّة، ليبدأ بتخليد التُّراث المشرقيّ العربيّ، وعبر إحيائه وتجديده، ومن ثمَّ الغناء الشَّعبيِّ اللبنانيّ، بشتّى أنماطه وقوالبه، من (الميجانا وأبو الزّلف، إلى المعنّى والعتابا، مروراً بالشّروقي والقرّادي)، الذي يحمل امتدادات وتفرّعات في سورية وفلسطين والأردن والعراق.
الصَّافيّة!..
حمل ابن الشُّوف الفلكلور إلى قلب الأغنية الحديثة، فأعطاها مذاقها الخاصّ، برخامة صوته، ورهافة حسّه، وقوالبه الفريدة؛ تلك هي “مدرسة وديع الصّافي”، فكان له الدّور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبنانيّ، وفنونه، جرّاء نشره في أكثر من بلد، ليغدو فيما بعد مدرسة في الغناء والتَّلحين. ومما يستحضر عن تلك الفترة أيضاً، أن الشَّاعر “أسعد السَّبعلي” لعب دوراً مهمّاً في بلورة شخصيّة وديع الفنيّة، ولتكون البداية مع “طلّ الصَّباح وتكتك العصفور” سنة 1940. ولتبدأ بعدها حقبة من اقتحام عوالم العمالقة وكبار ذاك الزّمن وكلّ زمن، بدءاً بأوّل لقاء له بعد أن سافر إلى مصر، مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عام 1944 وإشادته به، وكذلك إشادة النّقاد المصريين به بالقول: “وديع الصَّافي في طريقه لتشكيل مدرسةٍ خاصَّة به، هي المدرسة الصَّافيّة”. وليثبِّت صاحب الصَّافيّة خطواته أكثر بعدها، إثر لقائه بـ “نقولا بدران” والد ألكسندرا بدران “نور الهدى”، وليقيم عدداً من الحفلات بالتّعاون معهم حتّى سنة 1947، إذ سافر مع فرقة فنيّة إلى البرازيل، ليشارك بإحياء عدد من الحفلات.
“أي حاجة يقلها حلوة”
بعد ثلاث سنوات قضاها بين مصر والبرازيل، عاد إلى لبنان، ليطلق عقب وصوله أرض الوطن أغنية “عاللّومة” ويذيع صيته بسببها، إذ باتت تُردّد على كلّ لسان، وبعدها.. كرّت سُبحة الأغاني الخاصّة به، ومن التي تُعدُّ من أشهر ما غنَّاه، وتُردّد حتَّى يومنا هذا (لبنان يا قطعة سما، صرخة بطل، الليل يا ليلى يعاتبني، شاب الهوى وشبنا، مرّيت عالدّار، الله يرضى عليك يا ابني). ممَّا يعني أن مطلع خمسينات القرن الماضي، كان بمثابة علامة فارقة في مشوار الصَّافي الفنِّي، وذلك من خلال ما ذكر، علاوة على أغنية “ولو”، المأخوذة من أحد أفلام عبد الوهاب السّينمائية، الذي قال فيه: “من غير المعقول أن يمتلك أحد هكذا صوت”، كما علّق عبد الوهاب أيضاً – حين لحن له أغنية “عندك بحرية يا ريس” – كلمات عمر الزّعنّي وتوزيع إلياس الرَّحباني، بالقول: “أَلحنلو إيه.. أي حاجة يقلها حلوة”. وليبدأ تربّعه على عرش الغناء العربيّ باللون الذي يمتلكه – وحتّى يومنا هذا – لا يزال متفرّداً على عرش لونه الخاصّ، الذي قال فيه النُّقاد: “صنع لذاته لوناً لم يصل إليه أحد، ونعتقد أنه لن يصله غيره”.
فيروز .. نصري .. صباح
في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك مع عدد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانيّة، انطلاقاً من جذرها الفلكلوري، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعته بـ (فيلمون وهبي، والأخوين الرّحباني وفيروز، وزكي ناصيف، ووليد غليمة، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصّيداوي) وغيرهم الكثير. وأيضاً.. عبر تشكيله “ثنائياً تارة، وثلاثياً تارة”، مع (فيروز، ونصري شمس الدّين)، في عديد الأغاني والاسكتشات، وكذلك مع الشّحرورة صباح، ليختلف معها فيما بعد، نتيجة تخلّفها عن حفل مشترك – بلا توضيح – ولتنتج عن هذا الخلاف قطيعة استمرّت أكثر من عشرين عاماً، منتهياً بالصّلح.
باريس!..
مع بداية الحرب اللبنانية عام 1976، غادر الصّافي إلى مصر، ومن ثمَّ إلى بريطانيا، ليستقرّ بعدها.. وتحديداً سنة 1978 في باريس، ولتبدأ رحلة دفاعه عن لبنان عبر صوته في العواصم العالميّة، مؤكّدا في كلّ إطلالة أنّ: “لبنان.. هو الفنّ والثّقافة والحضارة”، حتّى قال فيه العديد من النّقاد اللبنانيين والعرب المغتربين: “تجدّدَ إيمان المغتربين العرب بأوطانهم، وتحديداً اللبنانيين بوطنهم، من خلال صوت وديع الصّافي، وأغانيه الحاملة للبنان ولطبيعته ولجراحه ولهمومه”. ليبدأ منذ مطلع الثمانينات، بتأليف الألحان الروحيّة، نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها على الوطن، واقتناعاً منه “بأنّ كلّ أعمال الإنسان لا يتوّجها سوى علاقته بالله، وبالوطن” كما أكدّ أكثر من مرة، كيف لا؟! وهو الذي أشاد فيه كلّ من عرفه عن قرب، أنّه كان يبدأ صباحه كلّ يوم، بإشعال شمعة وبخور، وبالصّلاة والتَّراتيل الرّوحيّة، ويقول: “أتقرّب من الله، وأمرّن صوتي بذكر كلماته”.
قلب!..
عام 1990 خضع الصّافي لعملية القلب المفتوح، إلا أنّ آلام وأوجاع قلبه لم تُثنِه عن رسالته في الفنّ، إذ استمرّ في عطائه الفنّيّ، إن كان عبر التّلحين أو الغناء، فها هو يقارب الثّمانين من عمره، ويلبِّي دعوة المنتج اليوناني اللبناني “ميشال الفترياديس” لإحياء حفلات غنائيّة في لبنان وخارجه، مع المغنّي “خوسيه فرنانديز” وكذلك مع المطربة “حنين”، ليحصد حينها نجاحاً منقطع النّظير، وليعيد وهج الشّهرة إلى مشواره الطّويل. كما لم يغب يوماً عن برامج المسابقات التّلفزيونية الغنائيّة، وعن تشجيع المواهب الجديدة التي رافقته وهو يغنّي أشهر أغانيه.
“ما أعزّ من الولد إلّا البلد”
يحمل وديع الصّافي الجنسيّة الفرنسيّة والبرازيليّة، كما منحه الرّئيس المصري السَّابق محمد حسني مبارك الجنسيّة المصريّة، بعد أن لحَّن وغنَّى “عظيمة يا مصر” من كلمات أحمد علّام، والتي تُعدُّ من أشهر الأغاني الوطنيّة المصريّة. وبطبيعة الحال.. ابن لبنان البارّ يحمل جنسيّة وطنه، وكان دائماً يردّد: “ما أعزّ من الولد إلّا البلد”. ابن البلد وأبوها.. ووالد (دنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد)، ورفيق وحبيب أمّهم “قريبته وزوجته” ملفينا طانيوس فرنسيس، التي تزوّجها سنة 1952.
5000 أغنية
غنّى مطرب الأرز كما أطلق عليه عدد من النُّقاد والفنانين اللبنانيين والعرب أكثر من 5000 أغنية في حياته الخالدة، كما لم يصل أحد إلى حرفنته في أداء المواويل والعتابا والميجانا. وتعامل مع العديد من الشّعراء، إضافة إلى أنّه غنّى للعديد من الملحنين أشهرهم (محمد عبد الوهاب، بليغ حمدي، الأخوين الرحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، رياض البندك، فريد الأطرش(، ورغم تعاونه مع أهمّ الأسماء الموسيقيّة العربيّة، إلا أنَّه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه، وهو ما أرجعه بعض النّقاد إلى كونه “الأدرى بإمكانيات صوته، علاوة على أنّه يُدخل المواويل في أغانيه بأسلوب يخصّه وحده، حتى أصبح مدرسةً يحتذى بها”.
لغات قديمة .. سينما
وغنّى صوت الجبل كما أطلق عليه البعض، باللغات السّورية القديمة (الشّرقية والغربيّة)، كما شارك في مهرجان الموسيقا الآشوريّة عامي 1972-1973، إضافة إلى مشاركته في العديد من المهرجانات الغنائيّة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة، كما شارك عملاق لبنان كما أطلق عليه آخرون، في أكثر من فيلم سينمائي، من بينها (غزل البنات 1949، “ليالي الشّرق” و”الخمسة جنيه” 1965، ، موّال 1966، ونار الشّوق 1970 الذي أدّى فيه أغنية على رمش عيونها لهويدا ابنة بطلة الفيلم صباح).
أوسمة!..
في جعبة “صاحب الحنجرة الذهبية” كما لقبه البعض أيضاً، العديد من التَّكريمات والجوائز والأوسمة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة “الرّسميّة وغير الرّسميّة”، منها حفل التّكريم الذي أقيم له سنة 1989 في المعهد العربي في باريس بمناسبة اليوبيل الذّهبي لانطلاقته. كما مُنح أوسمة الاستحقاق من الرُّؤساء (كميل شمعون، فؤاد شهاب، سليمان فرنجية، إلياس الهراوي)، إضافة إلى أن الرَّئيس إميل لحود منحه وسام الأرز برتبة فارس، وكذلك منحه سلطان عُمَان الرَّاحل “السّلطان قابوس” وسام التّكريم من الدَّرجة الأولى، فيما منحته جامعة الرُّوح القدس في “الكسليك” دكتوراه فخريّة في الموسيقى عام 1991.
وكبرنا يا بيي
ومن المحطّات اللافتة في حياة الصّافي المليئة بالعطاء، هي الأغنية التي قال فيها العديد من النّقاد والفنانين العرب، أنّها “من أفضل أغاني ما مضى من الألفية الثالثة، من حيث الجمع بين قطبين ومدرستين غنائيتين”، حين اجتمع عملاق لبنان وديع الصّافي مع شمس الأغنية اللبنانية نجوى كرم عام 2003 في الأغنية الحوارية “وكبرنا يا بيي” كلمات عصام زغيب، وألحان أنطوان الشّعك، الحوارية التي تطرّقت إلى أجمل ما قد يقوله الأب لابنته والبنت لأبيها.
18 نغمة!..
قيل ونشر في حقِّه الكثير، من بعض ما قيل هو “أديب الفنِّ العربي، وآخر عمالقة الفنِّ الجميل” وفق محمد عبد الوهاب، فيما كتبت النّاقدة ومغنية الأوبرا المصرية العالمية “رتيبة الحفني” عنه: “لا نغالي إن قلنا بأن صوت وديع الصّافي أقوى أصوات الرِّجال في العالم العربي بلا استثناء، مداه ديوانان ونصف ديوان تقريباً، أي 18 مقاماً أو نغمة، ويهبط صوته بسهولة متناهية، من أقصى الحِدَّة إلى أقصى الغِلْظ، هذا الصّوت ضخم جذل، وفي الوقت نفسه رقيق رشيق”.
القَدَر ..
ها هو القدر يضرب موعداً في 11 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2013 بعد صراع طويل مع المرض، مع روح صاحب الرِّسالة العريقة في الفنّ، عن عمر يناهز 92 عاماً، كيف لا؟!.. وهو الذي قضى أكثر من نصفها في الموسيقى والغناء، وقال غيرة مرّة: “الفنّ يبعد الإنسان عن السّوء، ويجعله راقياً في عاطفته وأخلاقه ووطنيّته، الفنّ ليس مجرد غناء”. ليدفن جسد صاحب صوت جبل الأرز وابنه، في بلدته نيحا الشّوف، ولتبقى روحه حاضرة عبر صوته الذي يجوب العالم بأسره. وداعاً أيّها الصَّافي بما أعطيته للفنّ من روائع ستبقى خالدة في لبنان، والعالم العربي، وحيثما وجد من ينطق بلغة الضّاد حول العالم.