11 يوليو 2023
حاوره: هاني نديم
منذ أن قرأت كتاب “خريف المثقف في العراق” وأنا أرفع محمد غازي الأخرس إلى رتبة خاصة من التنبّه والملاحظة والنقولات والشروح، وحينما قرأت بعده كتابه “المكاريد” تأكدت من خصوصية التقاطاته التي توظف الثيمة الشعبية في بناء علم الاجتماع وتلمست قدرته في توظيف الإحالات جميعها في الاجتماع كما في الأدب.
محمد غازي الأخرس شاعر وباحث وروائي وصانع أفلام وثائقية عراقي، كتب عدة أفلام لعل أشهرها باص أحمر في بغداد وللريل وحمد، فاز بعدة جوائز وأثار الجدل ونال التقدير في كل ما كتب وأنتج. التقيته في دردشة خاطفة عن بعض الهواجس الثقافية العامة.
سألته:
- من المكاريد أبدأ، بعنوان صادم مثل هذا وبما جاء من تفاصيل قاسية في الكتاب رغم لغته الطريفة إن جاز التعبير، هل تضع وثيقة تاريخية بين أيدينا أم أنه أدب خالص؟ حدثني عن هذا الكتاب الذي أحبه جداً على الصعيد الشخصي.
– لا أعرف حقيقة كيف بدأت الكتابة عن المگاريد، أو “المعترّين” بلهجة الشام، أو “الغلابة” بلهجة مصر. هؤلاء جميعا ينطبق عليهم الوصف نفسه، إنهم فقراء منحوسو الحظ، غلبتهم الدنيا القاسية وجردتهم من أية سلطة، وحولتهم إلى مطرودين من وليمة الحياة، ومطاردين من السلطات المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
مؤكد أنني اختزنت الرغبة بفتح عوالم هؤلاء الناس سنين طويلة، ليس لأنني واحد منهم فقط، وعشت في وسط اعتاد أن يؤجل أحلامه إلى إشعار آخر، بل لأنني ميال إلى توثيق الأشياء. لطالما كانت لدي دفاتر صغيرة أدون بها، وحين بدأت استشعر وجود موهبة الكتابة لدي، ذهبت باتجاه توثيق حيوات الناس الذين أعرفهم، وأنا أعرف من عشت بينهم، الفقراء والطبقة الوسطى، والمدخل دائما هي نفسي، نفسي التي جهدت للحفر في عقدها العميقة.
هل المكاريد كتاب وثائقي أم أدبي؟ إنه مزيج من الاثنين، لنقل إنه توثيق بلغة أدبية، توثيق يستثمر معارف إنسانية عديدة من علم النفس الاجتماعي إلى النقد الثقافي ومن الأنثربولوجيا إلى السوسيولوجيا، وأعتقد أن هذا هو سبب محبة القراء له ، إن كانوا قد أحبوه فعلاً.
- تجربتك مع الأفلام الوثائقية امتداد لكتابتك عموماً، حدثنا عن ذلك الجانب منكم وما هي مشاريعك القادمة؟
– عام ٢٠٠٤ أنجزت أول فيلم وثائقي هو (الجحيم)، وكان موضوعه هي المقابر الجماعية التي دفن فيها نظام صدام معارضيه. ذهبت إلى عاصمة المقابر الجماعية، السماوة، كما سميت في وثائق دولية، ومعي فريق كامل. صورنا في الصحراء، والتقينا من أسميتهم “أدلاء الجحيم”، من أهالي المنطقة. أولئك دلونا على مقابر جماعية لم تفتض بكارتها بعد، وحدثونا عن قصص لا تحدث إلا في جحيم الأرض.
في تلك الرحلة القاسية، خيل إليّ أن تلك المقابر بوابات عراقية حديثة للعالم السفلي، حيث كتب العراقيون القدامى عن عذاب رهيب يعانيه الموتى. كانت تجربة غريبة وعجيبة، وقد غيرتني للأبد. شغفت بعدها بعالم الأفلام الوثائقية وأنجزت عدداً منها، أشهرها فيلم (للريل وحمد) عام ٢٠٠٧ الذي يحكي عن ملحمة نزوح الجنوبيين إلى بغداد نهاية أربعينات القرن العشرين ونقلهم تراثهم الغنائي والموسيقي معهم. نجح الفيلم نجاحا كبيرا وما زال حتى الآن يحظى بمشاهدات على اليوتيوب.
بعده أنجزت أفلاما اجتماعية وسياسية، كلفتني بها مؤسسات إعلامية. وفي الأخير، كتبت مع صديقي المخرج علي محمد سعيد فيلما روائيا عن روايتي (ليلة المعاطف الرئاسية) وفاز بمنحة مهرجان البحر الأحمر ، وسوف يصور قريباً بين الأردن وبغداد ربما.
- يتردد كثيراً أن زمن نجوم الأدب انقضى، هل هذا صحيح؟ ولماذا برأيك، وكيف تقرأ المشهد الأدبي العراقي اليوم ومن ثم المشهد العربي؟
– نعم للأسف، زمن نجوم الادب ولّى إلى الأبد إلا ما ندر، وأعتقد أن ضخ الدماء في شرايين الجوائز العالمية، لاسيما في الرواية ليس سوى محاولة لإحياء ظاهرة الأدباء النجوم، لكنها مهما جهدت واجتهدت لن توازي ظاهرة نجومية أبطال السوشيال ميديا، من الفيس بوك إلى التيك توك والانستا، وانتهاء بالتويتر واليوتيوب.
المشهد الأدبي العربي في تراجع، القيم تتغير، مفاهيم تنسحب وأخرى تحل مكانها
إننا نعيش عصر غروب الأدب وانطفاء نجومه، مقابل ولادة عصر السوشيال ميديا بسرعته وطابعه العابر واللحظي، بل بـ”تفاهته” كما يحلو للبعض وصف ما يجري، رغم تحفظي على ذلك. فالتافه بمعاييري هو غيره بمعايير ابنتي. لكل زمن نجومه وأشكاله، لهذا الكثيرون من أبناء جيلي يشعرون بالغربة اليوم. الخلاصة من كل هذا لا تحتاج الى ذكاء لتبنيها؛ المشهد الأدبي العربي في تراجع، القيم تتغير، مفاهيم تنسحب وأخرى تحل مكانها، والمحظوظ من يتفهم مكانه في هذا السياق دون أن يفقد توازنه.