6 يوليو 2023
حاوره: هاني نديم
في روايته نشيج الدودوك، يصطدم الروائي الأردني جلال برجس بصوتٍ سمعه في بريفان عاصمة أرمينيا، فتأكد من أن كل ما كان يعتمل في داخله من أصوات حزن وأنين وشجى وحنين، تترجمه آلة الدودوك وتعيد تصديره من جديد. في تلك السيرة الروائية الجريئة التي كتبها برجس أخيرا، تستطيع أن تفهم مسارات السرد وأنساق الحزن والانتصار للهامش الذي يبدو طافحاً في جميع رواياته، إذ كاشف قارئه بأنه الطالب غير النجيب، وبأنه الفقير الذي ظل يلبس من “البالة” حتى مراهقته، وبأنه كان لا يستطيع شراء حتى الخبز.
جلال برجس حالة نادرة من الصدق والمواجهة، فاز بجائزة كتارا عن روايته “أفاعي النار” وفاز بالبوكر العربية عن
“دفاتر الوراق”، كما فاز بجوائز كثيرة أخرى إلى جانب أنه نال وسام الملك عبدالله الثاني للتميز أخيراً.
التقيناه في هذه الدردشة:
- تشغلني البدايات التي قطعناها في مسيرتنا الأدبية وبودي سؤالك عن أول الكتابة وعن أهم تلك المنعطفات والمسارات التي جعلتك في هذا المكان اليوم كروائي معروف.
– ولدت في عائلة كان فيها جدي شاعرًا نبطيًا، وكانت جدتي حكّاءة بالفطرة. لهذا تنازعني الشعر والسرد مبكرًا. عوالم مهدت لامتلاك أدواتي في النظر إلى نفسي وإلى العالم. تعجلت في زمن المدرسة لامتلاك قدرتي على القراءة لسببين؛ الأول حين رأيت عجز أمي عن قراءة القرآن الكريم، والثاني حين عجزت عن قراءة رسائل عمي عزيز طالب الطب في أوروبا الشرقية آنذاك. وحين عاد تعرفت بلذة القراءة من خلاله حين طلب مني أن أقرأ (البؤساء) لـ (هوغو)، أول قراءاتي التي جعلتني أعرف أن العالم أبعد من حدود قريتي (حنينا).
أول كلمة كتبتها هي (الماء) على جدار بيتنا الأول المطلي باللون الأسود. أول كتاباتي كانت في السرد؛ إذ جربت كتابة يومياتي وأنا في الرابعة عشر من عمري تقريبًا. يوميات تتطرق إلى ما يحدث لي طوال نهاري، ونظرتي لما حولي. مع الأيام تحولت إلى عادة لا أستطيع التخلي عنها إلى الآن. أما أول نصوصي المنشورة فكانت في القصة، إذ كتبت عن رجل يحتضر وهو ينظر إلى سقف الغرفة، وكيف يرى في السقف كل حياته على شكل فيلم سينمائي. أتت تلك القصة جراء رؤيتي لشخص في المستشفى يحتضر.
حين عينت في الصحراء أعمل على الطائرات الحربية، أخذني الشعر كفعل مضاد لأحادية الصحراء. لكن الرواية أخذتني إلى عوالمها فكتبت ثلاث روايات هناك اعتبرتها تمرينات على السرد. في عام 2007 انتهى عملي في الصحراء، وعدت للعيش في مدينتي مأدبا، وواصلت كتابتي الروائية.
“الماء” كانت أول كلمة كتبتها على جدار بيتنا
- من التحليق كمشتغل في قطاع هندسة الطيران إلى التحليق كروائي، هل تكتب وتقود سردك بنفس الآلية؟ كيف تتعامل مع مخططك الروائي؟
– إنها ليست الآلية ذاتها التي أسير وفقها في عملي، بل جزء منها. أنا من الروائيين الذين يمضون وقتًا في التخطيط لما يكتبون. لكن ذلك التخطيط ليس صالحًا بالشكل الكامل للكتابة التي تطرأ عبرها أفكار جديدة، ومصائر أخرى للشخصيات. وحين أعود للعمل من جديد على مخطوطتي الروائية وأنتهي منها أجد أن هناك جوانب كثيرة لم أكن أفكر بها من قبل. إنه سر الكتابة الذي لا يستطيع أحد التنظير له بشكل مطلق.
- عن الجوائز التي نلت منها الكثير، هل حقاً تغير الجائزة في بنيوية السرد ومنهج الروائي. هل تشكل قيداً ما، نهجاً ما.. وما رأيك في القول بأن الجوائز العربية حطمت الرواية التي أصبحت لاهثة وراء التكريم أكثر من الجمال؟
– ليس لأي جائزة أصابع -بالمفهوم المعنوي-لتبدل في بنيوية السرد، لكنها تضع الروائي أمام مسؤولية مضاعفة نحو نصه القادم، وهذا إيجابي من طرف، وسلبي من طرف آخر. الإيجابي هو ازدياد حرصه الإبداعي على ما يكتب، سعيًا إلى مستويات أفضل. أما السلبي فهي محاولة الروائي كتابة رواية تفوق الرواية التي فاز عنها بجائزة، كشرط مستجد من شروط كتابته. ربما يتحقق هذا الأمر لكن إن يكن له ذلك سترتبك علاقته بالعملية الإبداعية برمتها؛ فهي ليست مسألة تسير وفق سلم يؤدي إلى منطقة عليا بهذا المفهوم. إذ ما تأملنا أعمال كبار الروائيين العالميين سنجد التفاوت بين ما كتبوا. الكتابة منطقة حساسة تؤثر فيها، وعليها كثير من العوامل، لهذا يجب التعامل معها بحساسية عالية.
أما فيما يشاع بأن الجوائز العربية عبثت بالرواية فهذه ردة فعل ليست منطقية برأيي. ليس هناك من كاتب لا يريد التكريم، أو نيل جائزة. على العكس مما يقال فإن الجوائز العربية قد حفزت الكثير على خوض غمار الرواية وبالتالي ربح القارئ العربي العديد من الروايات المهمة.
- تكتب وتنتصر للهامش في معظم كتاباتك، عن الخوف والحطام الإنساني، هل هذا جزء من مشروعك الكتابي، أم كيف تصف الأمر؟
– إنه مشروعي الكتابي برمته، وليس جزءاً منه. بات ما يقال عنه الهامش يشكل للأسف الشديد الغالبية العظمى من المتضررين مما يحدث من انهيارات عالمية، ومن تحولات مريبة، ومن انتكاسات خطيرة. إن رقعة الفقراء في اتساع دائم، وأنا واحد من أبناء هذه الرقعة الشاسعة، أعيش عبرها لحظة الشارع بكل ما يحدث فيها ولها، لهذا تجدها المحور الرئيس في رواياتي، إذ يتجاوز الأمر مهمة الإنتصار، ويذهب نحو إطلاق الأسئلة حيال هذا الواقع الذي ما يزال قابلًا لإنتاج أشكال عديدة من التطرف، والعنف، وكثير من الممارسات التي يستهجنها الكثير متجاهلين ما يمكن أن يرشح عن الضحية.