حامد البلاسي ..الدنجوان البورسعيدي وآخر شعراء مدرسة “أبولو”

7 يوليو 2023

السيد الخميسي – شاعر وكاتب مصري

أسطورة من أساطير بورسعيد لا مراء .. قال لي مرة : أنا من جزيرة أم خلف و هي قرية صيادين صغيرة جدا و فقيرة تقع على الجهة الشرقية من بحيرة المنزلة على بعد عدة كيلو مترات جنوب بورسعيد قريبة من “بوز القرد” أو ربما هي نفسها بوز القرد .

لا نعرف من عائلته سواه وأخاه مكرم البلاسي المذيع في الإذاعة البريطانية و هو شاعر أيضًا .. ومات غريبًا لم يترك عقبا .
ورث البلاسي الشعر عن جده شاعر الربابة التلقائي”محمد رزق القشاوي ” في جزيرة أم خلف ، البلاسي جزء من تراث بورسعيد لاجدال .

يجلس خلف مكتبه الضخم في محل العطارة الشهير في منتصف شارع التجاري يتابع حركة عماله السريعة .. مثل الملكة في مملكة النحل على يمينه البنك الطويل العريض يفصل بينه وبين زبائنه من النساء كل زبائن البلاسي من النساء يقول للصبي : سلم على أمك.. سلامتها .. قل لها تأخذ هذه الخلطة وستقوم مثل الحصان.

البلاسي أشهر دون جوان في بورسعيد .. على ناصية المحل يقف الطحان أمام مطحنته الصخرية يدق “بالهاون” في حركة رتيبه لها صوت موقع ثابت .. منفصل عما حوله مثل راقص صوفي يرقص وحده رقصة الخلاص الأخير .. يعزف مع صوت النساء وصوت شارع التجاري الصاخب المزدحم سيمفونية الحياة ، ترك البلاسي ابنة وحيدة كانت الهواء الذي يتنفسه .
أجلس بجواره خلف المكتب الضخم يكلمني كلمة ثم ينصرف بشقه يتحدث مع المرأة البيضاء الطرية تمد ذراعها البض المكتنز قشدة وأساور من ذهب أصفر رنان.

عندما أخذني أستاذي مدرس اللغة العربية وكان شاعرًا ليقدمني إليه اقتحمني بعينيه ازدراءًا !!ماهذا يا جمل !؟ هل كنت تحدثني عن هذا !؟ إنه طفل .. .أتذكر هذه اللحظة الأولى وأنا جالس إلي جواره خلف مكتبه الضخم يسمعني قصيدته الجديدة.

يكتب البلاسي القصيدة الخليلية الرومانسية يفتخر أنه آخر الرومانسيين من جماعة أبولو – كتب كمال نشأت عنه في كتاب نقدي – ثم تجاوز البلاسي القصيدة الخليلية وكتب التفعيلية وإن لم يتخلص تمامًا من الروح الرومانسية .. كتب أيضا الشعر باللهجة العامية .. كتب رباعيات لا بأس بها – ظلم صلاح جاهين كل من كتب رباعيات بعده – غنت له إيمان الطوخي أغنيته الجميلة “عصفور كناري”
يتمتع الرجل بكاريزما هائلة لا تملك إلا أن تعجب به وتحبه – حتى وإن اختلفت معه -يحب النساء ويحببنه . كان يقدر أن يكون نسخة مصرية من نزار قباني لو أخلص للشعر وحده كما أخلص نزار فالشعر كالفريك لايقبل ” شريك”.

كنا في رحلة للقاهرة بدعوة من الإذاعة المصرية لنناقش ديواننا المشترك في برنامج ثقافي تقدمه نجوى وهبي وضع ذراعه في ذراعي وسرنا في شوارع القاهرة حدثني يومها عن ذكرياته مع القاهرة ونسائها .. حكى لي قصصًا يشيب لهولها الولدان.

بعد موت السادات سمحوا لي بالإعارة للسعودية – تعذبت طوال فترة السادات مراقبة وتهديد ونقل وتشريد واضطهاد وضرب في لقمة العيش – كان همي أن أصبح تاجرًا حتى لا أكون تحت سيطرتهم وجبروتهم وأتخلص من ذل الوظيفة الحكومية ” اتضح لي في النهاية أنه لا أحد خارج سيطرتهم وسطوتهم وجبروتهم”.

بعد 73 كنت من أوائل العائدين إلى بورسعيد تركت القاهرة وعدت يملؤني الأمل في بناء مدينتي المنتصرة تفاجأت بالنقيض .. كتبت قصيدتي “الحزن والمدينة ” وكان وقتها محررًا للصفحة الأدبية في مجلة “صوت بورسعيد” أرفقت القصيدة بخطاب أنتقد فيه بشدة النماذج الهزيلة التي ينشرها ! قابلني فتحي باشا بعدها وكان من مجلس إدارة تحرير صوت بورسعيد قال لي : أنت مجنون هل هذا خطاب ترسله للبلاسي؟

ساءلت نفسي كثيرًا ماسرّ قوة هذا العطار اللغز يقول للمحافظ سيد سرحان ياسيد يناديه باسمه مجردًا من الألقاب ، هل هي قوة الشعر أم قوة المال أم قوة الشخصية والكاريزما ، ما سر قوة هذا الرجل اللغز الذي مات وترك مملكته وبيته وثروته ومكتبه الضخم لمحمد جرجس ( هكذا أسماه البلاسي ) هذا الولد السمين ابن زوجته التي تزوجها في أواخر حياته في ظروف غامضة أيضا تكتنفها الحكايات والإشاعات ، أتذكر يوم أرسله لي في محل الأحذية بورقة كتب فيها أعط ولدي محمد جرجس زوجين من الأحذية ، قال لي بعدها كنت أعرف أنك ستجد مقاس هذا الولد السمين ، في كل ندوة كنت أطلب منه أن يقول رباعيته العبقرية التي تلخص حياته ( جوزت قلبي للي ما يحبهوش .. وبقى لي عيلة من اختلاف الوشوش .. واما ابتديت أصحى من الخوف لقيتني ..عصفور رهيف بين إيدين الوحوش) .

هو أيضا – مثل كثير من الأدباء – يكتنفه كثير من التناقض فهو كريم بدرجة كبيرة لا لبس فيها يستضيف الضيوف من الأدباء الوافدين على المدينة في بيته الواقع أمام فيلا ديليسيبس في حي الإفرنج – في الحقيقة هي فيلا كبير مهندسي ديليسيبس – يستضيف معهم أصدقاءه من أدباء المدينة يفتح لهم بيته وقلبه ومكتبته يهديهم الكتب ثم يرفع عليهم القضايا وكل في تلك القضايا المحامية الكبيرة عزيزة عصفور ، من الذين قاضاهم البلاسي الشاعر إبراهيم الباني ، يومها أعطاني – بعد إلحاح منه – ديوانا لعبد الوهاب البياتي أخذه مني بعد ذلك مجيد سكرانة و حمدت الله أن لم يرفع البلاسي على دعوى تبديد كما فعلها مع الباني .. يالجنون الشعراء ويا لغرابة أطوارهم.

طلب مني أن أرافقه في رحلته السنوية للغورية ليتعاقد على طلبات المحل قبل الموسم ، رأيت احتفاء كبار تجار القاهرة به ، يمر علينا ابن المضيف بشراب يصبه من أبريق فضي صغير في فناجين صغيرة جدا تشبه كستبان الخياط من فرط صغرها .. شراب عجيب مفرط السخونة لذيذ مشبع تحس برحلة سريان الرشفة في سائر خلاياك .. قلت له بعد عودتنا لقد حدثت لي أمور غير طبيعيه ياأستاذ، لقد ركبني ستمائة عفريت، وبت ليلة مجنونة حتي الصباح ، قال : هو هذا الشراب الذي شربته في الغورية ، لكل عطار سره وتحويجته هذا الفنجان غالى الثمن لايقدر على تكاليفه عامة الناس .. يالغموض العطارة وسحرها.

بكيت وأنا أقرأ إهداءه لي – كتبه على كتابه رباعيات خيام مصري – ( إلى أخي وإبني الشاعر السيد الخميسي تحية وفاء مفعم .. حامد ) بكيت لثلاثة أسباب : اولا لفقر الكتاب شكلا وإخراجا وهو هذا الشاعر الكبير الغني مالًا وفكرًا وإبداعًا، يا طالما نصحته أن لايسلم نفسه وشعره لفرقة المنافقين والأرزاقية وكيف زوج قلبه لمن لا يحبه.

ثانيا لأنني تذكرت أنه قبل موته بيوم واحد قابل السيد زرد في الحميدي وقال له : رأيت ماذا فعلنا في الخميسي ؟ مات وهو مغاضب لي بسبب وشايات المنافقين وتجار الثقافة .

رحم الله أبي حامد البلاسي، ياليت محمد جرجس يعيد طباعة تراث البلاسي بطريقة تليق بمقام هذا العملاق، لن يكلفه ذلك رهقًا فقد ترك الرجل ملايين عددا اختلف الناس في عددها.

ثالثا ياليت الأرزاقية يتذكرونه في موالدهم ومؤتمراتهم فلطالما طعموا طعامة وشربوا شرابه .

قد يعجبك ايضا