حمدي الجزار: هذا العالم مجرد توهّمات ذاتية!

15 يوليو 2023

حاوره: هاني نديم

منذ سنوات بعيدة التقيت حمدي الجزار الروائي المصري وأهداني رواية سحر أسود، علقت بسحرها ولم أخرج حتى اليوم، وأستطيع أن أقول أن الرواية الأحبّ إليّ هي الرواية التي لا يوجد فيها هامش ومتن، حاشية وشروحات، تختلط كلها في كلها مثل منمنمة فارسية وتنفجر كتلة كاملة من الجمال. هذا السرد الواعي الذي يمرّ بكل التفاصيل دون أن يسلط الضوء على جانب ويهمل جانب، توزيع الإضاءة بعبقرية على التفاصيل هو مقياس يمكن اعتماده للسرد العظيم. كما أعتقد. أعمال حمدي الجزار نموذج لهذا.

قرأت أخيراً روايته العروسة التي جددت سحري القديم بهذا القلم. حاورته عن السرد والرواية واللوكيشن والشخوص وما أظنه إسقاطات شخصية. سألته:

  • قرأت لك رواية “سحر أسود”، وما زلتُ عالقاً في سحرها، هل ما زلت تنظر إلى العالم من وراء عدسة كاميرا؟

– جميل، ابق عالقًا في سحرها!  في رواية “سحر أسود” ينظر ناصر عطا الله، الشخصية الرئيسية في الرواية، إلى العالم من خلف عدسة كاميرا، وليس أنا!  ناصر عطا الله بحكم عمله ككاميرا مان، ومدير إضاءة، ومصور للبرامج التليفزيونية، ينظر للعالم من موقعه، من خلف الكاميرا، ويروي كل ما حدث في سحر أسود، ويضئ عالم الرواية، وشخصياتها، وأحداثها.

أما أنا ككاتب فقد انتقلت من استخدام ضمير المتكلم الذي سرد رواياتي الثلاث: “سحر أسود” و”لذات سرية” و”الحريم” إلى استخدام ضمير الغائب،  السارد العليم في روايتي الأخيرة:”العروس”.

لم أعد خائفاً من أي شيء حتى من الموت!

  • هل لديك رهاب من العالم أم من ولعك بالتفاصيل؟ إن صح السؤال. حدثني عن علاقتك بالتفاصيل، والمحيط كسارد وروائي.

-أنا كإنسان، وككاتب، ليس لدي أي رهاب من العالم الآن، في وقت ما كأي إنسان، كان لدي “خوف” ما، خشية وخوف يعرفه كل منا في نفسه، خوف من الآخرين، من سلطة الأب والدين والتقاليد، ومن مجابهة الحياة، خوف من الفشل، من الحب، من الغدر، وبشكل جوهري خوف من “أم كل خوف” ، الخوف من الموت. وكان أول بحث أعددته حين كنت طالبًا بقسم الفلسفة، بجامعة القاهرة، عنوانه: “الخوف من الموت عند ابن مسكويه”!

بعبور الكثير من التجارب والخبرات أستطيع أن أقول اليوم إنني تحررت من هذا الخوف، لم أعد خائفًا من أي شيء، وبصفة أساسية لم أعد خائفًا من الموت.

أما عن التفاصيل في أعمالي، فأي رواية تتكون من كلمات، وكل كلمة تفصيل من جملة، وما الفقرة سوى جمل..هكذا تمضي السطور في تشكيل القصة، التي يتوجب أن نعرف تفاصيلها، ومكانها وزمانها، وأحداثها، وبدون تفاصيل لا توجد قصة من أصله.

بدون التفاصيل يكفى أن تخبرني بفكرتك بإيجاز، وتتجنب كل هذا الجهد في كتابة نص أدبي تسميه رواية، ينتمي لفنون القول الرفيعة.

وأظنك تقصد بكلمة”المحيط” المكان والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، والجماعات التي انتميت إليها، أنا ولدت بمدينة إقليمية صغيرة يتبعها أشهر القرى في العالم: منف، عاصمة مصر القديمة، وسقارة، ودهشور وأبوصير..ولدت على بعد نحو ثلاثمائة متر من أعظم تمثالين لرمسيس الثاني، ونشأت في ورشة نجارة تصنع الأثاث للمدينة ولهذه القرى التابعة، وفي الورشة تعلمت الحرفة، ومعنى الإتقان فيها حتى صرت “أسطى” موثوقًا به، معروفًا بجوده عمله، ويقصده الزبائن لأمانته ومتانة ما يصنع من أثاث.

ثم درست الفلسفة في جامعة القاهرة، ومن بعدها عملت مدرسا للفلسفة لفترة، ثم التحقت بالقناة الثقافية بالتليفزيون المصري، وسكنت في معظم أحياء القاهرة، وكل ذلك ظهر في رواياتي!

في”سحر أسود” دارت الأحداث في حي المنيرة، وفي “لذات سرية” في حي الجيزة القديمة، وفي “الحريم” في  طولون بحي السيدة زينب، وفي “العروس”  تدور معظم الأحداث في وسط البلد، ميدان طلعت حرب، بالقاهرة، تقريبًا لم أكتب عن مكان ومحيط اجتماعي لم أعش فيه!

  • بين “سحر أسود” و”العروس” التي صدرت أخيرًا، ما الذي اختلف لدى حمدي الجزار تقنيًا وسرديًا؟ ماذا عن الرواية الأخيرة؟

-بين “سحر أسود” و”العروس” نحو 18 عامًا من القراءة والإطلاع، والتأمل، والكتابة المتواصلة، وثلاثة كتب، وعشرات القصص، وأسفار لأوروبا وأمريكا وبعض أنحاء الوطن العربي.

أما الذي اختلف تقنيًا وسرديًا بين “سحر أسود” و”العروس” فكثير لا أستطيع أن أشرحه بلغة أخرى سوى اللغة الفنية، أي التقنيات الموجودة في العملين، ومن يقرأهما ويحاول أن يتتبع رحلة الكاتب التقنية فسيجدها هناك، بلغة الرواية، وتقنيات الفن، وهذا عمل الناقد بالدرجة الأولى، والقارئ المتابع.

  • من أين تستمد مصادرك كحكّاء؟ ماذا تقرأ وكيف ترسم كروكي مشروعك الكتابي؟

-أنا لست بحكاء، أنا روائي!

لا أنظر لنفسي بوصفي حكاء. الحكاء هو من يحكي الحكايات، والحكايات تحيل إلى الشفاهية، وجمالياتها، ولغتها وأدواتها، وتصور رجلا يجلس إلى جماعة يلتفون حوله ليحكي لهم حكاية تسليهم!

ذات مرة أخبرني فنان تشكيلي مصري شهير أنه ذهب بابنه الصغير إلى مقهى الفيشاوي بحي الحسين، وكان الأستاذ نجيب محفوظ جالسًا، فسلم الفنان على الأستاذ نجيب، وقال لابنه هذا الأستاذ نجيب مخفوظ، إنه رجل  يحكى حكايات جميلة! فامتعض الأستاذ نجيب محفوظ وقال له: حكايات!! الله يسامحك.

جماليات الرواية هي جماليات كتابية، والفرق شاسع بينها وبين الحكاية الشفاهية، حتى وإن كتبت الحكاية الشفاهية، واتخذت شكل القصة،  أو الرواية.  أما مصادر رواياتي فمتعددة.

أولها حياة الحس المشترك التي نحيا فيها جميعًا، والتي نراها ونحن في حال اليقظة هذه، وفيها توجد هذه  المجرة التي نتبعها، والكرة الأرضية والدول والشعوب، والسماء، وما يجري في هذا العالم من أحداث وتغييرات، وما نشترك جميعًا في معرفته، بوصفه مكاننا وزماننا، وثقافتنا، وكذلك تاريحنا كبشر، كل هذا مصدر أساسي، ووجوده في عالم رواية المتخيل هو ما يجعل الرواية مشابهة لحياتنا اليومية، ومفهومة لكل قارئ.

“كنت أعرف أنني مقتول”.. تلك الجملة بدأت منها روايتي

المصدر الثاني هو حياتي، خبرتي الذاتية، وما مر بي من أحداث تقع لكل فرد إنساني، ميلادي في مكان وزمان محددين، وما عاصرت من أحداث وشخصيات، وخبرات التعلم والقراءة والطفولة والمراهقة والشباب، والحب والصداقة، والألم والمعاناة والفرح والحزن، وتجاربي الشخصية، وهذا مصدر رئيس لكل كاتب.

المصدر الثالث هو الأحلام، وهذا العالم الذي نحسبه خيالا وندرك أنه، حين نعود لحال اليقظة، عالم وهمي من اختراع أدمغتنا، وأنه توهمات ذاتية، ولم يكن يوجد معنا أحد من كل هؤلاء الذين ظهروا في الحلم. ولعلك تذكر هنا “أحلام فترة النقاهة” لنجيب محفوظ، التي استمدها من أحلامه.

هناك مصدر رابع، هواللغة نفسها، التي قد تكون مصدرًا لعمل روائي. بدأت روايتي” لذات سرية” من جملة كتبتها، هي:

“كنت أعرف أنني مقتول”. ومن هذا الجملة سألت نفسي من الذي يتكلم؟ مما يخاف؟ من  الذي يريد أن يقتله؟ ولماذا؟ وهل قتله بالفعل أم نجا؟

من هذه العبارة بدأت الكتابة، وانتهت الرواية بعد نحو ثلاثمائة صفحة، ولم تعد العبارة التي بدأتُ منها موجودة.

أظن أن هذه المصادر الأربعة هي مصادر كل عمل فني، والمحيط الذي يغترف منه كل كاتب بطريقته، وأسلوبه، وفنه.

ليقدم لنا عملا فنيا، رواية أو قصيدة، مسرحية أو موسيقى، أو فيلمًا سينمائيًا.

 

  • هل يلخص المطعم في روايتك الأخيرة “العروس” المجتمع المصري بل ولعله الإنساني؟

– لا يمكن اختزال المجتمع المصري، أو أي مجتمع في مكان واحد.  “مطعم العروس الفاخر” في رواية “العروس” مكان مركزي يجمع معظم شخصيات الرواية، وهو أيضًا شخصية أساسية، له حضوره وتاريخه وما طرأ عليه من تغيير، إنه العالم الذي حدث فيه كل شيء، لكنه ليس المجتمع المصري أو الإنساني، إنه مكان فريد لأنه مكان روائي فحسب.

 

اللوكيشن الحاضر دوماً في رواياتك يكاد يكون بطل الرواية، حدثني عن روايتك الأخيرة وعلاقتك بالأمكنة.

 – نعم، للمكان حضور قوي في رواياتي، فبدونه لن توجد الرواية، ولن تستطيع ككقارئ تخيل واقعيتها على الرغم من إدراكك أنك تقرأ عملا متخيلا وأحدثًا لم تقع.

المكان المقصود بالطبع هو المكان الروائي، أعنى”وسط القاهرة” مثلا مكان يعرفه كل من مر به، ولكنه حين يظهر في عمل أدبي فهو مكان روائي، رسمه وصوره كاتب بعينه، وإن كتب عن نفس المكان كاتب آخر رأينا مكانا آخر يخص من كتب.

بدأت رحلة كتابة العروس منذ سنوات، وأنهيتها وراجعتها في نحو ست سنوات، وهي الرواية الأطول بين أعمالي، وكذلك العمل الذي استغرق سنوات من الصبر، والمعاناة، والمتعة.

وإذا سألتني ماذا ترشح من أعمالك لقارئ جديد، سأجيبك، ليقرأ “العروس”.

 

قد يعجبك ايضا