بين الصحافة والأدب.. العلاقة المعقدة والمزيج الخطير

14 يوليو 2023

فرقٌ طفيف ما بين الأدب والصحافة، فرقٌ شاسع بين الصحافة والأدب! كثيرون مروا من أروقة الصحافة نحو الأدب وكثيرون عبروا من الأدب إلى الصحافة، كما جمع آخرون بين هذين الفنين العظيمين.

ما الذي يجمع بين الصحفي والأديب وما الذي يفرق بين الصحافة والأدب؟ يحتجّ الأكاديميون القادمون من كليات الصحافة على خروج الأدباء العاملين في الصحافة عن المناهج والنظريات وتفلتهم في عرض آرائهم، وبدورهم، يرى الأدباء أن الصحفيين دون خيالٍ ودون مغامرة تصنع منهم كتاباً كبار، مناكفات وخلافات كثيرة ولكن وفاق واحترام أكثر، هذا يثري ذاك ويضفي كلٌ منهما نكهة إلى الثاني. إن سألتني كيف نحمل السيفين معاً ونحارب، سأقول: إن على الصحافة أن لا تفسد الأدب فينا، وعلى الأدب كذلك أن لا يأخذ حيّز الصحافة التطبيقي، بمعنى: “أن يكون الواحد منا صحافياً عند العمل على قصته، أديباً عند كتابتها وتفريغها من معلومات الميدان”. وأعتقد أن كبار الصحفيين من الأدباء فهموا ذلك وطبقوه تماماً.

يجادل الناس أيضاً في إثراء كل فنٍ الفن الآخر، هل كان للصحافة دورها في سطوع رواية الواقعية السحرية مثلاً؟ هل مهدت للمزيد من السير الذاتية واليوميات الأدبية؟ دراساتٌ عديدة ظهرت تقول إن الصحافة كان لها الدور الأكبر في مهنية وحرفية ما كتب إدغار آلان بو، وهو ما وضعه الناقد مايكل آلان، أيضاً درس النقاد دور الصحافة وتأثيرها على ثاكراي وتشارلز ديكنز فوجدوا تأثيراً عميقاً عكس ما يدعيه الأدباء عامةً من أن أروقة المكاتب هي سجن وقيد يقيد أجنحة الأدب، واستنزاف للوقت في كتابة كلامٍ مبتذل وأخبار رديئة، وكذلك شملت الدراسات همنغواي وغيره من الأدباء، وثمة كتاب مهم في هذا الجانب لأستاذة العلوم الإنسانية واللغة الأمريكية شيلي فيشكين اسمه: “من الحقيقة إلى الخيال”، ترصد فيه الأدباء الذين بدأوا كتاباتهم من الصحافة، وتتساءل عن سبب إهمال الدراسات الأكاديمية قصص وأدب الصحافة، ويجيبها النقد العام الكلاسيكي الذي يرى أن الرواية أرفع من الصحافة على الدوام. ولكن لعل هذا الكلام تغير مع انطلاق ما عرف بالصحافة الحديثة ودخول نوع من الصحافة الأدبية الرفيعة إلى القارئ اليومي مع جون ديدون وهانتر ثامبسون ونورمان ميلر وتراسي كيدر وكاوبتي وغيرهم ممن أسسوا لكتابة هجينة تجمع بين الأدب والصحافة بمهنية وجمال.

لقد استخدم الأدباء الصحافة لمعرفة تفاصيل الحياة وخوض غمارها، وهو ما دفع برموز الأدب إلى امتهانها والتعلق بها مثل ماركيز وهمنغواي وشتاينبك وجاك لندن، لقد سافروا ورأوا العالم من خلال صحافتهم، وظلوا مشتبكين مع هموم الناس والأقليات والمهمشين يرون ما يجري في الشارع ويحاكونه أدباً وصحافةً.

يمكننا القول بأنه هنالك ثمة شعرة رفيعة بين الصحافة والأدب، وفاصلٌ هلامي يدركه المحترف ويلمسه، وإن كان الأكاديميون يزعجهم وجود الأدباء المتفلتين من ضوابط التحقق والاختزال، وإن كان الأدباء ينزعجون من ذبابة الصحافة التي تطنّ عند أذنهم، فليجيبونا: هل تتصور الصحافة دون من مروا عليها من أدباء كبار؟ هل نتخيل أولئك الكتّاب دون صحافة؟ هل كان سيكتب أرنست همنغواي روايته العظيمة “وتشرق الشمس” وغيرها لو لم يعمل لصالح صحيفة مهتمة بتغطية مصارعة الثيران في إسبانيا؟ أم هل كان ستوكر كتب روايته الشهيرة “دراكولا” لو لم يكن صحافياً، إذ كتبت الرواية على شكل سلسلة من المذكرات والرسائل ومقاطع الصحف. أم هل كان دانييل ديفو كتب رائعته روبنسون كروزو لو لم يدمج الواقع (قصة البحار الأسكتلندي الذي هام في البحار 5 سنوات) بالخيال في رواية ما زالت هي الأشهر حتى عصرنا هذا؟

قد يعجبك ايضا