27 أوغست 2023
حاوره: هاني نديم
شاعر شاب خاص جداً، زين العابدين المرشدي من العراق والذي فاز بجائزة “أقرأ” العربية أخيرا، نصه كثيف ويشير دون لبس إلى ثقافة واكتساب، وهو ما يفسر فوزه كأفضل قارئ عربي. كنت قد أخبرته بأنني سأرسل له دردشة خفيفة قبل فوزه، وشغلنا الاحتفال به، حتى اليوم، سألته:
- أبدأ من تحقيقك لعدة إنجازات جاءت متتالية وفي وقت قصير، ماذا سبق هذا الحصاد، حدثني عن مسارك الأدبي وكيف خلصت إلى هذا النجاح الذي نحترمه ونثمنه؟
ـ منذ الطفولة، يدهشني جمال شكل البيت الشعري العربي القديم، وحتى الآن؛ يدهشني ببعده البصريّ، بشطريه المفصولين عن بعضهما، فلم يكن عبوري هذه المساحة الفارغة بينهما على الورقة، إلا كعبوري النهرَ في قريتي، النهر الذي يفصل أرضًا عن أرض، وقبائلَ عن قبائل، لا يوحّدهم إلا هذا النهر ولا يفرّقهم إلاه.
هل يبدو غريبًا ومعكوسًا لو قلتُ: صغيرًا كتبتُ الشعر، وكبيرًا قرأته؟! ليكن ذلك. كتبته يوم لم يكن لدي اطلاعٌ كاف عنه، وقرأته متعمّقًا بعد أن كتبته لأفهم قصيدة الطفل وأعالجها. في البدء، انقلبتُ انقلابًا، لم يكن ضاريًا، بل سلميًّا، فلقد تركت رفاقي الصغار، يلهون بالطين أمام دورنا في السماوة، وتسللت بعيدًا عنهم إلى طين الكتابة، الطين الوحيد الذي لا يوجب توبيخًا للطفل في عودته للمنزل.
تعلّمت عروض الشعر العربي على يد مدرّس لغة عربية، كان يدرّس في مدرسة أخرى في مدينتي. لشدة تشوقي واندفاعي للشعر، حينذاك؛ تعلمت بحرين شعريين في ساعة واحدة. لن أنسى سعادتي حين كتبت أول بيت موزون على البحر الكامل، لم يكن اندهاشي شعريًّا وقتها، بل كان صوتيًّا تاريخيًّا، أي بمعنى أن سعادتي كانت نابعة من أنني صنعتُ صوتًا يحاكي، بإيقاعه على الأقلّ، صوتَ أعرابيّ قديم، يركب ناقته في البيد ويرتجل بيتًا هنا وهناك. بعد ذلك، فُتنتُ بقصيدة النثر وما زلت، بوصفها استثمارًا للنثر، الخازن للثقافات البشرية، والمحافظ على ديمومة الحياة بشكلها المكتوب، ولأن معظم النصوص التأسيسية التي كونت المخيال البشري كانت نثرًا.
أما على مستوى كتابتي، منذ فترة وأنا أكتب الشعر على أي شكل جاء.
القصيدة رقيقة كورقة الشجر، تستثقل حتى من الندى
- كيف ترى المشهد الشعري في العراق، ومنه إلى الوطن العربي، وهل ترى هنالك فرقًا في الأشكال الشعرية بين موزون ونثري؟
ـ الشعر اشتغالًا غيره تلقيًا. أزعم أن رغم التشابه والتقليد، هذه الأيام، بين الشعراء؛ أرى تجاربَ كثيرة، في العراق وفي أقطار عربية مختلفة، تشتغل في مناطق خاصة جدًّا من الشعرية العربية. لكنّ ذلك التشابه، بسبب كثرته، وعدة أنصاره، حقق له ما يشبه المدرسة، وهذه المدرسة كبرت، فصار طلابُها مدرسي طلابٍ جدد، وهكذا تستمر مدرسة التشابه. أما الشعر تلقيًا، فأرى أن الشعر يتعافى، فنيًّا، حين لا يصبح ضروريًّا للناس، القصيدة رقيقة كورقة الشجر، تستثقل حتى من الندى. هذا ما أعتقده. لقد تخلص الشاعر العراقي، والعربي من سلطة الجمهور.
الشاعر، اليوم، يكتب لجمهور قليل اختاره هو، يكاد أن يعرف جمهوره بالوجوه، فلم تعد الحياة العامة هي من تختاره وتدفعه نحو الشاعر. كما لم يعد الشاعر لسان حال قبيلته، كما في عصور مضت، وأنّ من أهم إنجازاته الكونية، اليوم، أن يكون لسان حال نفسه، في هذا العصر الذي لم نعد أنفسنا بمراياه، العصر الذي يفلت من أيدينا مثل السمكة، ويغيب بعيدًا نحو مياه مجهولة.
وبخصوص جدلية شكل الشعر، موزونه ومنثوره، أرى أن هذه الجدلية مسّها ضباب الدبلوماسية الشعرية، وأعتقد أن الشكل، بوصفه هيكلًا تقوم عليه القصيدة وتعلو، يؤثر تأثيرًا مركزيًّا في القصيدة، ويكاد أن يكون الأمر بديهيًّا، فالشكل يؤثر بالقول، لا لشيء إلا لأنه طريقته. والزعم أن الشعر لا يتأثر بالشكل، فهذه القول لا يبتعد غالبًا عن الدبلوماسية تلك. أرى أن كل شكل يقول ما لا يقوله الآخر، وخير دليل على هذا هو بقاء الأشكال نفسه. البقاء وحده كافٍ ليخبرنا بذلك.
للتجييل محامده وأريد من الكتابة نفسها
- هل تؤمن بفكرة الأجيال؟ وإن كان كذلك كيف ترى الأجيال التي سبقت وكيف تنظر إلى المستقبل؟ وماذا تريد من الكتابة؟
ـ يظل إيماني بالأجيال مرتبطًا بغرض إيجادها، وهي تسهيل عملية متابعة الشعراء وتقصي آثارهم، وكشف ملامحهم دراسيًّا. وعلى المستوى الفنيّ فإن للتجييل محامده الكثيرة، حتى أشبّه نضوجَ القصيدة بالزهرة الناضجة، وأنّ نضوج زهرة، في بستان، يتطلب وجود أزهار أخرى مجاورة، قد تطاير طلعها فتلاقحت معها واستوت أمامنا تلك القصيدة الثمرة؛ لكن في الوقت التي يثبت التجييلُ الشعريُّ مشروعيتَهُ، نجد أنه ينفي هذه المشروعيةَ عنه، ليخبرنا أن مهمة أي شاعر، داخل أي جيل، هي أن يغادر ذلك الجيل، أن يترك أبناء جيله، فيمدّ جناحه على الأجيال اللاحقة، تاركًا لمنافسيه ريشًا تساقط منه، وهو يحلق تحليقته النهائية إلى السماء. أنظر للأجيال الشعرية السابقة نظرة المتأمل، فأرى قبس شاعر يخفت، وقبس آخر يشتدّ، محاولًا إيجادَ زيت الذي أضاء، وتفادي رياح من انطفأ. ما أريده مستقبلًا من الكتابة: هي، هي وحدها. وأن أدوّن حياتي، أصغي لهوامشها التي أنا موكل باستنطاقها؛ أدوّن حياتي لأن ذلك واجب عليَّ حتى من باب مروءتي أمام حياتي نفسها وحسن تعاملي معها؛ لأن الشعر، في نهاية أمره، ما هو إلا استطلاع فردي لعالم جماعيّ.