16 أغسطس 2023
حاورها: هاني نديم
- من أين تستمد حنان فرفور الخامة الأولى لنصوصها؟ كيف تقدمين إلى نصك وكيف تخرجين منه، حدثيني عن فعل الكتابة وهل أنت نادمة على أنك شاعرة؟
– لا أعرف حقا كيف أجيب عن هذا السؤال يا هاني، لم أفكر يوما بالقصيدة على أنها فستان، أزركشُ أكمامه بأعصاب مخرّمة أو أوسّع خصره كلما أُصِبتُ بتخمةٍ في المشاعر، و أفتح ياقته كلما ارتفعت حرارة الخيبات بالأصدقاء والحياة والوطن. ولا فكرت أنها قميص يستر ما بي من ندوب ورثتها بالصدفة؛ الصدفة البحتة التي تجعل من صخرة مسنة قرب المحيط: صخرة شاعرة، وتحوّل شجرة على كتف جبل مجروف إلى قصيدة.
وحينما كنت أقلّ وعيا وأكثر رومنسية، أصدقك القول، كنت أحب أن أشبه القصائد بالخيام، يأوي إليها الغرباء المتشردون الهائمون الذين ابتلت عروقهم بالسراب فما عادوا صالحين للسكن في بيوت الطين ولا تحت أسقف مدرعة بالظلال. أنا امرأة فوضوية ومزاجية للنخاع، لا أجيد التخطيط للدخول ولا للخروج من النص، فشلت دوما بمادة الحساب وخصوصا هندسة الخطوط والزوايا والأبعاد، أرسم كل شيء بالحدس، وأدخل الحياة والقصيدة على نيتي مزودة بالصدفة نفسها التي جعلت مني شاعرة.
كل ما أعرفه أن ثمة غليان دائم في صدري، وثمة طلقة تحتاج أن تخرج من هذه الضلوع، رصاصة لم يطلقها أحد! ربما هي تَشَكل رمادي لحرائق بائتة في أنسجتي، أو تراكم جلطات حضارية، أخشى أن تصيب الخيول التي تمرح في خيالي، فأطلقها هكذا دفعة واحدة فتخرج عارية كما خلقها الرب أو أطلقها القدر بين جنبيّ هائمة على وجهها.. فإن صارت قصيدة حمدت الله والشعر، وإن لم.. شكرتها، لأنها لم تفضحني بين يدي الناس والتاريخ !
ثمة غليان دائم في صدري، وثمة طلقة تحتاج أن تخرج من هذه الضلوع
لا أعرف كيف أدخل، لكنني أعرف أنني أخرج من نصوصي خفيفة، رشيقة ولما يبق في أوردتي وأرصفة روحي مارة طارئون ولا أولاد مشاغبون، ولا حتى أسئلة ثقيلة.. هذه اللحظة بالذات اللحظة التي يعاند فيها الشعر الجاذبية، هي الجائزة الحقيقة، اللحظة التي تشعر بأنك صرت إلهًا! إلهًا بجناحين..
هل أندم على ذلك؟ لا أشعر بامتنان على شيء كما أفعل لأنني تجرأت على الكتابة، لا يبدو أي شيء كافيا خارج الشعر يا صديقي.. لا الحب لا السفر لا المال ولا حتى البنين! أنا بحاجة ماسة قبل كل هذا، لأعرف نفسي وأدللها وأخفف عنها ما علق فيها من أشواك وأثلام، أحتاج أن أنقب في آبارها، أن أخرج ما رمت القبائل والقوافل بها، وأن أمسح عنها ندوبها قلقها وتوترها الدائم، لا علم النفس، ولا الفلسفة ولا حتى أولئك الذين يضربون في المندل وبالطبع ليس الـ life coaches يقدرون على ذلك! وحدها القصيدة كشاف أمين يحول كل هذه القباحة إلى جمال هائل..
وكل ذلك النقص إلى لوحة مكتملة البهاء.. ويحضرني عم سيوران الآن وهو يتمطى ويقول: كان أحد المرضى يقول لي: فيم آلامي وأنا لست شاعرا لأستغلها أو أفاخر بها؟
- ماذا تقرأ حنان خارج الشعر؟ وإلام تستمع من الموسيقا وما الذي يعجبها في بقية الفنون من مسرح وتشكيل وخلافه؟
– يصعب عليّ أن أعترف، لكنني لا أحب قراءة الشعر كثيرا! وكثيرا لفظة منمقة للهروب من إدانة زملاء الكار! أحب أن أستمع للشعر الجيد، الشعر الذي يتسرب من المسامات.. أسمعه بجلدي حرفيا، الشعر الذي يشغل العقل ويصافح الروح برقة.. فتسري في الجسد إثارة وفي القلب رجفة. لكنني قارئة نهمة للرواية خصوصا المترجمة منها. أحب أن أطلع على الفلسفة والنقد والكتب المحرّضة التي يصعب تصنيفها، ولا أصدق كتب التاريخ و بيني وبينها حواجز قديمة. أميل بشكل انحيازي إلى الموسيقى الشرقية، أحب موسيقى بليغ حمدي بشكل خاص، وتأسرني ألحان الرحابنة وأموت وأحيا في فيروز ليس لأنها ترند خالد، بل لأنها من أسباب تعاقب الليل والنهار.
العود يأتي في طليعة الآلات الوترية التي تهزني، ولم أوفق للآن في التفرغ لتعلم العزف عليه. أحب العتابا والميجنا والزجل اللبناني ببساطته وعبقريته. أعشق الشجن في الألحان العراقية، والعرامة في القدود الحلبية.. ببساطة ذوقي في الموسيقى يشبه ذوقي في اللهجات بلدي صرف.. لست متبحرة في الرسم ومدارسه، لكنني أتذوقه بشغف السائح وفضول الجارة أراقبه من شرفة الشعر ، فأميل كما تحكم ذائقتي إلى فرادة التجريد، وجمالية إيماءاته، فأتحول من شاعرة يُتلصص على أعماقها، إلى شغوفة أتنصت على عوالم التجريديين الخفية. هذا لا يعني أنني أقصر استمتاعي بها وحدها. نحن أسرى الجمال الذي يسرح ويمرح خارج التصنيفات، فالفن الكلي والحقيقي يكمن كما الله في الحياة وفي التفاصيل على قول باشلار..
أحب موسيقى بليغ حمدي بشكل خاص، وتأسرني ألحان الرحابنة وأموت وأحيا في فيروز
- هل يحقق المثقفون المطلوب منهم في دورة حياة المجتمع؟ كل طرف ينحو باللائمة على الآخر، كيف ترين تلك الهوة بين النخب والمجتمعات؟ ومن المخطئ ومن المصيب؟
– لعل من صفات المثقف أن يشتبك بقضايا وهموم وهواجس مجتمعه وأمته، فينفعل متأثرا ويفعل مؤثرا، وتكمن خطورة” المثقف المبدع” أن تأثيره عابر للجغرافيا والزمن، وقد وعت الأنظمة كلها دوره، في التوعية والتثقيف وفي الانتصار بحروب القرن الناعمة، منها من قلّم أجنحته وقوّض جهوده وشيد حوله سورًا من التعتيم والإقصاء، وأفلت على صوته كواتم البوليس السري وكلاب الحراسة الشرسة، وتركوا الساح والفضاء في المقابل لجيوش التافهين والتافهات وجنود المؤثرين والمؤثرات. يعيثون بالعقول الناشئة فسادا وتدجينا محولين المجتمع الإنساني بعد إذابة الحدود وتوهين الحضارات الأصيلة وقيمها، إلى مجتمع ترند، يستهلك كل شيء حتى القمامة الأخلاقية! ثم بعد كل هذا يتهم المثقف وتتهم النخب -مع تحفظي على هذا المصطلح ودلالاته- بالتقصير والغرور والقطيعة مع الواقع!
نحن في مواجهة مؤسسات جبّارة وإرادات وحشية وامكانات مادية ولوجستية هائلة يا هاني. فماذا سيفعل ما تبقى من مثقفين لم يمت بعد فيهم الحلم والأمل؟! هذا لا يعني بطبيعة الحال الإنكفاء، لكنها دعوة للتعامل بواقعية بعيدا من جلد مَن لا يملك في الزمن الرقمي إلا قلما وصوتا في حين أن الناس لا يقرؤون؟! النضالات التي كنا نقرأ عنها ما زالت موجودة.. لكنها انتقلت من نضالات واقعية في الحياة والسياسة والاقتصاد والوطن.. إلى نضالات في الوجود! نحن نناضل حرفيا ليسمح لنا بالبقاء! ولا شيء غير الفن قادر على ذلك، ولا أحد سوى وعي المثقف وتعاضد المثقفين يبني جزائر ضوء في هذا العتم الزاحف.. هؤلاء ومنهم أنت وما تحاول ان تفعله في هذا الموقع المنارة.. يحملون الصليب بانتظار قيامة ما. فشكرا لك ولهم.