12 أغسطس 2023
شاع في السرديات الشعبية أن الذكاء لا يخبئ نفسه، فهو واضح وضوح الشمس في كبد السماء، مثله مثل مصدر كلمة “ذكاء” وجذرها من الشمس والنار. وهذا قول عليه قول، إذ أن الذكاء “الفادح” الواضح هو نقيصةٌ وغباءٌ في بعض الأحايين إن أردت.
ولعل قول أبي تمام: “ليس الغبي بسيّدٍ في قومه ولكن سيّد قومه المتغابي” ما يلمّح إلى هذه القضية. كذلك القول: “كل مختال بعقله أحمق” لم أعد أذكر من قال هذا، لعله الجاحظ., وهو كذلك، لا يحمل أحجاراً ويضرب الناس بنقيصة، ولا تقرقع ماكينته بشكل مزعج ومنفر، إذ أن الذكاء من وجهة نظري عملٌ هادر دون ضجيج كأي سيارة فاخرة، مفهوم ولكن لا يفسر، مثل الفخامة والعراقة أيضاً.
حسنٌ، عليّ أن أعرف أنك ذكي ولكن من الذكاء أن لا أعرف إلى أيّ حدّ. وعليّ وعليك أن نقرّ، أن الذكاء صنوفٌ وتصنيفات، فالعقل البشري غرفٌ وردهات. يسكن الذكاء في محلة ويترك محلة. فقد يكون الذكي في الرياضيات أعمى في التاريخ. وهكذا.
وقد اختلف الناس كثيراً في تعريف الذكاء كمفهوم، إلا أن أحداً لم يختلف حول القول الشائع: “ذكاؤك محسوب عليك”. وعلى ذكر الحسبة، فإن “المكر” و”الكيد” لم يحسبه الحكماء يوماً على الذكاء، فهو باب مذموم مثله مثل التورية في اللغة والتلميح والدبابيس التي ينشرها القائل في حديثه، وفي هذا يقول جون أوليفر: أعتقد أن التورية ليست فقط أدنى شكل من أشكال الذكاء، ولكنها أدنى شكل من أشكال السلوك البشري. وفي الكتب الدينية الهندية القديمة ذكروا إن الذكاء لا يجب أن يكون أداة انتقام وإلا حولها الله لنقمة.
وثمة ذكاء مهدور كنهر بلا ضفاف، تنفلت مياهه على الأرض البور فلا ينتفع بها لا طير ولا بشر. وهي حالة نراها كثيراً، ونتمنى لو أطّرها صاحبها في شكلٍ لائق لينجو بذكائه ويستثمر به، فرانسيس بيكون يقول: إذا رأيت صاحب ذكاء تائه، علّمه الرياضيات! وأعتقد أنه يريد لنا توزيع أفكارنا ووضعها في خاناتها المناسبة، وقريب من هذا يرى مارك توين أن الذكاء هو تزويج فكرتين لبعضهما لم يكن يظن أحدٌ أن هنالك قصة حب بينهما.
هنالك نوعية أخرى من الذكاء “الغبي”، تلك التي تمسّ كل الأشياء بسخرية وتهكم. ثمة أناس لديهم القدرة على نبش النكتة والضحك من كل شيء، هذا حسن ومطلوب، إلا أن توظيفه في كل شيء يجعله في خانة غير محمودة، وظلت البشرية تجمع عربها وغربها بأن الفكاهة والطرفة يجب أن تظل دوماً كنسبة الملح إلى الطعام لا أن تكون وجبة كاملة. وتحت هذا يندرج الكثير من البلاغات والزخارف اللغوية واللف والدوران حيث يرى ويليام بليك أن الذكاء هو أقصر طريق نحو الحقائق ولكن أكثرها جاذبية. وفي هذا يقول أيضاً سومرست موم الذكاء هو الإيجاز. فلا تهدر طاقاتك البلاغية والفكرية في طريق يمكن له أن يكون قصيراً.
في حوار مع أحد المساجين في سجون أمريكا الرديئة سأله المذيع: هل تظن أنك ذكي، قال لا، أبداً! لو كنت كذلك لم ترني هنا، أعتقد أنني وقعت ضحية إيماني بذكائي المتوهم.
يروى عن تيمورلنك إنه قال: لا حاجة لي لأن أكون ذكياً للغاية، أنا قوي وشجاع، الذكاء هو للضعاف والناقصين!
اختتم بعبارة نجمة البوب مادونا التي سألت، العالم يحتار، هل أنت عبقرية أم حمقاء، قالت أنا بينهما وأتجه نحو ما يجب منهما في الوقت المناسب. وإن كان علي الخيار، فأفضل أن أكون حمقاء، ذلك أن الذكاء إهانة مهندمة. تعالي يورث الغيظ.
وإني من جهتي، أعتبر اليوم أن صعود نجم كل هؤلاء البلهاء أو غزو الحمقى كما يسميه أمبرتو إيكو، ما هو إلا انتقاماً من الذكاء وأهله. لقد قرر العالم الاحتفاء بالحمقى وتوجيههم نحو الصدارة.