16 أغسطس 2023
خاص – نص خبر
يعيش الكاتب السوري أنس غوري في العاصمة الأردنية عمّان منذ سنوات، يبيع ويشتري كتب، تلك مهنته التي تتفق حالياً مع مثقف مثله.
وف حادثة نادرة من نوعها، اشترى كتاباً فوجد فيه رسالة رسمية بخط يد عدي صدام حسين! “نص خبر” التقته ليسرد لنا الحادثة بطريقته الأدبية المعهودة فقال:
مثل عادتي كبائع كتب، دخلت إلى مكتبة زميلي الذي يعرفني ويمنحني امتياز الحرية المطلقة بالمكتبة. أطوف في عوالم الصّمت الممتلئ، ورغبة التملّك والظّفر تشتعل. أقلّب، أتصفّح، ولا أجد إلّا كتابا واحدا من ضمن اهتماماتي القرائيّة. أحمله بعاطفة أُمّ وأذهب لصديقي صاحب المكتبة، أحييه مرّة ثانية، نخوض في حديث عابر وقصير، وقبل أن أهمّ بالخروج يقول لي: “أنس، أمس اشتريت مجموعة كتب، وللآن ما فردتها. روح افتحها عسى تلاقي شيء يهمك. الكتب بالكيس الأسود جنب الباب”.
تتبدل ملامحي، يتلبسني الفضول الذي يدبّ فيّ الطاقة. تقدير خاص لوهب مثل هذه اللحظة. في لحظة شراء الكتب القديمة والمستعملة يتفرّد البائع بعد الشراء بآلية الفرز والتثمين حسب معرفته بذائقة زبائنه. غالبية هذه الكتب التي تباع، تكون لشخص قد رحل من الحياة ومن خلفه لا يقدّرون قيمتها أو بداعي السفر، وأحياناً بداعي العوز، والأخيرة أقل. كذلك، هناك عُرف بين باعة الكتب القديمة والمستعملة ينصّ أنّه من وجد شيء داخل الكتاب بعد عرضه للبيع يكون من نصيب المشتري. كيس قمامة أسود كبير جانب مدخل المكتبة، كيف وصلت له لم أعد أدري! وكيف تجاوزت حنقي على وضع الكتب بهذا الشكل، أيضًا، لا أذكر! أمزّق الكيس، أبدأ بفحص محتوياته، كتب علمية عن الحشرات والحيوانات والطيور، كتب أكاديمية. جميعها إصدارات عراقية. ي
خفت التوهج داخلي لبدأ قِلة شعور حظوتي بأيّ كتاب أدبي، وكيف لا أحزن وأنا الشغوف بالأدب حدّ الجنون! إيمانٌ عميق داخلي أرعاه كلّ أوان من خلال القراءة اليومية كصلاة لكلّ أجناس الأدب أن الكتب تجعل من العقل إِمَام، بينما كتب الأدب تهب الإنسان فؤاد عصفور، وتجعله يقف مع العقل في القلب حسب الحكمة الشرقية القديمة.
أتابع البحث بنصف خيبة ونصف أمل إلى أن وجدت رواية “قط وفأر” للألماني غونتر غراس بترجمة الدكتور علي عبد الأمير صالح، وهي من إصدارات “دار الشؤون الثقافية العامة ” بالعراق. عُرس أُقيم داخل قلبي ذات اللحظة بهذا التصيّد وزاد غنائيته قراءتي السابقة “طبل الصفيح” للكاتب نفسه.

تصفحت الكتاب من داخله فوجدت به ورقة، فتحتها، وإذ بها صورة طبق الأصل من رسالة عدي صدام حسين بخط يده إلى علي حسن المجيد محافظ الكويت أثناء الاحتلال العراقي لدولة الكويت يطلب فيها فك ونقل مطبعة النادي العلمي الكويتي إلى اللجنة الأولمبية العراقية في بغداد! وقد أشار علي حسن المجيد بالخط الأحمر موافقًا على نقلها ونقل ملكيتها.
صدمة وذهول تملكاني. أفواه خلايا دماغي تفغر. اختلطت المشاعر. توقّف العُرس بقلبي كمن وصله خبر وفاة قريب للعريس! صمت يمتد ويمتد، يطوحني ويقذفني في أتون التساؤلات. هذه الرسالة ألصقت بعيني وجع رؤيوي ومنه امتد لكلّ كياني. أولسنا أخوة؟! أم أنّنا “الأخوة الأعداء”؟! لا أجد من أسأله سؤالي الأكثر يتمًا: من سمّم ثدي أمّنا العربية؟!
يتنبّه صاحب المكتبة للصّمت الوجل الذي مسّني حتّى نسغ روحي، يسألني ما الأمر؟ أجيبه بدفع الرسالة له. يقرأ وأقرأ بعينيه رغبة امتلاكها، وبعقله أسمع صوت الحسد يزعق. لا أنكر أنّه لوهله شفّني شيء من الغبطة، لكن بعد تذكّر مآلات المرحلة الزمنية بتبعاتها التي نعانيها للحظتنا هذه، تندثر ويتسيّد الألم.
أدفع ثمن الكتاب وأخرج. بعيدًا عن التعسف الإيديوجي، ينتصب السؤال مثل بيرق في صحراء الألم الإنساني العربي. هل وجودنا موسوم بلعنة دهرية أم أن وجودنا خطأ على جفرافية العالم؟! ما من جواب!
لذا، دونكم نص الرسالة كما هو بحرفيته دون أي تعديل أو تصحيح:
“العم علي الحسن المحترم تحيه خالصه وبعد، في الوقت الذي ابعث به اليك بالتحيات الخالصه المفعمه بكامل المحبه من ابن تجاه عم ازر وشد من ازر ولده الحبيب في مثل هذه الظروف الصعبه. هنالك مطبعه عائده الى نادٍ يعرف بالنادي العلمي ، ولما كانت اللجنه الاولمبيه العراقيه في امس الحاجه لكونها تمتلك جريده خاصه بها ، وابقيت هذه الجريده بامر الرئيس القائد مع الاربعه صحف الاساسيه واغلاق الـ “85” صحيفه المختلفه الباقيه ، فقد ارسلت في طلب هذه المطبعه واعلمونا من هنالك في حراستها بانه ليس بالامكان سحبها الا بامر من شخص مسؤول فعند ذلك ارسلت مجموعه من المهندسين لتفكيكها وارسالها الى بغداد في المره الثانيه الا ان المسؤول عن حراستها قال ان الاستاذ علي هو المسؤول فاوعزت اليهم بعدم تفكيكها حرصاً على العلاقه بك. والرجاء هو المساعده في هذا الموضوع خدمتاً للحركه الرياضيه علماً يا عمي العزيز انها ستكون ملكاً للجنه الاولمبيه العراقيه وليس لشخص وستجل في الممتلكات الثابته في وزاره الماليه. تقبل سلامي الخالص”
5/10/90
علي حسن المجيد:
بالأحمر: موافق على نقلها ونقل ملكيتها كذلك اللجنة الأولمبية
التوقيع