محمد الهادي الجزيري: اكتبوا يا سادتي “القرّاء” وسنرى!

9 سبتمبر 2023

حاوره: هاني نديم

تعرفت إليه في العراق قبل سقوط بغداد، في المربد الأخير قبل غزو البرابرة. محمد الهادي الجزيري الشاعر التونسي الذي صعد يومها إلى منبر كان في حضرته الفيتوري وعبدالزراق عبدالواحد وغيرهما من الكبار وأجبر الجميع على الوقوف والتصفيق لقصيدته الفارقة. التقينا من ربع قرن وأكثر وما زلنا إلى يومنا هذا نتحاور ونتجاور في دردشات طويلة وقصيرة. إنه محمد الهادي الجزيري وكفى. 

التقيته في دردشة عما حولنا، سألته:

  • ثلاثون عاماً وأنت تكافح من أجل الشعر والثقافة، هل استحق الأمر كل هذا التعب برأيكم؟

– لم أندم على شيء ..والدليل أنّي آخر ما كتبت، قبل إصابتي بالجلطة الدماغية سنة 2016،  رفض الاعتذار عن كلّ شيء قمت به ..، وقبل أن أجيبك نثرا إليك هذه الفقرة الشعرية المكتوبة قبل فوزي بجائزة “أثير” وقبل تدخّل القدر في مسيرتي نحو الأجمل والأكمل ..وتلك مشيئة الله :

 “فعلتُ ما استطعتْ

واجهتُ راوغت تصدّيت تفاديت خضعتْ

ككلّ من في الحلبةْ

بهرتُ وانبهرتْ

وها أنا في الجولة الثانية والخمسينْ

أقرّ أنّي تعبتْ

لكنّني لن أخذل الطفل الذي فيَّ

ولن أعتذرَ عمّا فعلتْ”

بعد هذه الفاتحة ..يمكنني القول أنّي أخلصت لنفسي وتَبعتُ موهبتي طول ما انقضى من عمري، وصارعت كلّ ظلم وحيف وخاصة؛ خاصة: هذا الغبار الخانق المنتشر هذه الفترة على أمّتي! وما زلت بأضعف الإيمان أكافح فلول هذا المرض العضال.. ولن أهدأ قبل أن أنتصر أو آوي إلى حفرة في التراب العظيم.

بالنسبة لي يأتي الشعر أعلى رتب الثقافة وأنقى وجوه الحقيقة ..فكيف أندم على اقترافه؟ وهو الإثم الكبير الذي طالما اقتطعت منه أجزاء مهمّة (يقال عنها الشعرية) ..وإنّي واثق من عودتي إليه حالما أشفى تماما من مرضي الذي أسمّيه قدري. فلقد أبى عليّ الاكتمال وكنت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى نقطة النبوغ وهمزة الإبداع.. ولكن مشيئة الله أرادت عكس ما كنت أطمح له وإنّي مؤمن بالقضاء والقدر .. لذلك أواصل التعافي لأكمل مسيرتي قبل النوم الأخير..

كلّ خيباتي وأحلامي وطموحاتي محفورة في بئر قصائدي، فلقد تعلّمت منذ البداية أن أخفي أسراري فيها

  • حدثني عن الآمال والبدايات والخيبات والأحلام..

– البداية كانت طفلة الجيران.. منها وعليها وفيها جرّبت كلّ تجاربي الشعرية الأولى.. ثمّ افترقنا وسار كلّ في طريقه، وقابلت الحياة صبية وشابة وسيدة وصفات أخرى كثيرة، فكتبت عنها مجاميع شعرية وخلّدت في قصائدي أجمل وجوه لها.. وربّما خلّدت الوجه البشع الذي تظهر به هذه الحياة. خلاصة القول كلّ خيباتي وأحلامي وطموحاتي محفورة في بئر قصائدي، فلقد تعلّمت منذ البداية أن أخفي أسراري فيها.. القصيدة كانت ولا زالت مرآتي السرّية التي أقف أمامها كلّ لحظة ضعف أو قوّة أو حبّ. كم من الأشياء الهامة تخفيها القصائد وما على القارئ سوى البحث في فوضى الشاعر .. وخاصة في قصائده المنسية.

  •  تواجه صعوبةً في تقبل ما يجري في بلادنا الجديدة، ما الحل برأيك؟ هل تحطم ما كنا نحلم به؟ وهل للمثقفين دور في هذا سلباً أم إيجابا؟

– ما نواجهه اليوم أكبر من خيال وأكثر من مهزلة، انطلق الشرّ وقوى العظمى من وطني للأسف.. ليبثّوا سمومهم في خلايا أمّتي العظيمة.. وقد أفلحوا ونجحوا في كثير من الأماكن والأقطار. وما يزالون في أكثر من قطر عربي داءً عضالا ينخر في جسد الأمة.. وما يزال موتهم وغبارهم وفوضاهم في ليبيا وتونس خاصة، نظرا لموقعها الجغرافي الاستثنائي.. وسنرى هل يقبل الأحرار بهذا الذّل والهوان؟! أمّا المثقفون فقد تفرّقوا وإن كان صوت السياسي أقوى بكثير منهم، فقد هُمّشوا ونبذوا، والبعض منهم صاروا أبواقا للسلطة، ولا لوم على أحد فاللعبة عالمية تشرف عليها دول كثيرة ومع ذلك كما يقول أبو القاسم الشابي:

” ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسرْ ”

وقد قلت سابقا في “قصيدة اللعب” المنشورة في مجموعة “نامت على ساقي الغزالة ” ..وفي خاتمتها :

يحيا اللعبْ

يا كلّ من في الحلبةْ

منّا الأبيّ والدعيّ والعليّ والبغيّ والبهيّ والخرِبْ

صبرا جميلا سنرى لمن تكون الغلبةْ

للجهد أم للحظّ أم للحقد أم للحبّْ؟

ما يزال فينا شعراء كبار وأدباء أفذاذ، فقط يحتاجون بعض الوقت والصبر والجهد خاصة ليكونوا مبدعين متمّيزين

  • وسطنا الثقافي يعجّ بالخلافات والمحسوبيات والشللية وخلافه، كيف سننجو من أنفسنا؟

– حمدت الله على مرضي الذي أجبرني على حصر صداقاتي ومعارفي! فالوسط الثقافي صار اليوم غريبا عليّ أسماء كثيرة ووجوه جديدة، وما يصلني من أخبار وخاصة عن طريق أدوات التواصل الاجتماعي يشير إلى الفوضى المستشرية في كلّ مجال فنّي وخاصة في الأدب والشعر ، فالشعر هو الحمار القصير الذي يمتطيه كلّ من هبّ ودبّ. أنا قرّرت منذ فترة ليست قصيرة بالتعافي تماما من مرضي والكتابة في صمت بعيدا عن الضجيج ونفخ الجثث والدمى المتحركة.

  • كيف تقرأ المشهد الثقافي التونسي والعربي؟

– صراحةً.. شغلي بأثير الموقع العماني الإعلامي قدّم لي الكثير من خلال تعرّفي المطّرد على نخب في كلّ الوطن العربي، وذلك باطلاعي على عديد التجارب والأسماء المهمة التي تعمل بجدّ، في مجالات متنوعة في الشعر والقصة القصيرة والرواية والدراسات الجامعية، ممّا يُبشّر بكلّ خير وبجيل جديد سيحمل مشعل وراية عن السابقين، وهذا الكلام ينطبق على تونس وكلّ الأقطار العربية. إذ ما يزال فينا شعراء كبار وأدباء أفذاذ، فقط يحتاجون بعض الوقت والصبر والجهد خاصة ليكونوا مبدعين متمّيزين.

 

  • ماذا يعني الشكل الشعري لمحمد الهادي الجزيري؟ وكيف تنظر إلى الكتابة الجديدة اليوم؟

– بمنتهى الصدق، مازلت أميل إلى قراءة القصيدة الموزونة وإن كنت أجد في بعض النصوص النثرية حلاوة وطراوة وحداثة ما.، أعتقد أنّ الشعر هو ما يمسّك وما يرجّك. وأبقى دائما متاحا لأيّ نصّ مكثّف جريء، فاكتبوا يا سادتي القرّاء .. وسنرى!

قد يعجبك ايضا