إباء الخطيب: أتمنى أن أتجاوز نفسي وأقدم تجربتي بكامل إبائها

28 أغسطس 2023

حاورها: هاني نديم

أن ينتسب شاعرٌ ما إلى سوريا، فهذا حمل ثقيل، وأن يكون من السلمية فهذا حملُ مضاعف، حيث صعوبة التفرّد والتميز في أرض مكتظة بالشعر والشعراء، وهذا مدخل أشير فيه إلى إباء الخطيب التي وصلت إلينا بصوتها الشعري الخاص دون أن يتعمّد ذلك، وهذا ربما سر تفرده وتفردها.

التقيت بها في دردشة سريعة عن فيوض المكان الأول والشعر وسوريا، وعنها هي كإباء الشاعرة والإنسانة. سألتها:

  • عن المنبت والمكان الأول، عن السلمية المثيرة للدهشة والأسئلة والإجابات دوما، حدثيني عن تلك المدينة والشعر فيها، وعن بداياتك وأوائل الأشياء، ما الذي اختلف من البداية لليوم؟
– كيف يمكنني أن أصف سلمية ..تلك الصبية التي تتقن السير بكعبها العالي في الصحراء وتطيعها الصحراء! نعم تلك الصبية التي لا تشيخ وتتعامل مع ندوب الزمن والقهر والحرب بسخرية! أتخيلها بشعر متهدّل طويل وجسد ممشوق تسير مختالة بين أزقة العصور تدرك بفراستها البدوية كيف ترسم بخطوها الأثر.. وتحفره في كف التاريخ.
تتقن تماما بروحها الحضرية كيف تغوي اللغة واللحن والعاشقين.. إنها بتلك الخلطة العجيبة سيدة هائلة الأنوثة لم تقبل زوجا غير الشعر فأنجبت أولادا لا يتقنون شيئا أكثر من الانصياع لأبيهم رغم محاولاتها الكثيرة أن تزجهم في معركة الحياة؛ ربما تقوى أعوادهم لكنهم يحبون هذه الطراوة وينتمون إليها بوعي واستسلام كلهم يشبهون الماغوط ومنذر الشيحاوي وعلي الجندي وفايز خضور واسماعيل العامود على سبيل المثال لا الحصر.. حنونون..ومنهكون مترفون وعطاشى نادمون دومًا لكنهم شعراء حتى الصميم!
نعم سلمية مثيرة للدهشة..ما أخشاه أن أبناءها اليوم ولأسباب كثيرة يُعرف منها اليسير ويُجهل الكثير..ربما أضاعوا قلادة الدهشة هذه التي طالما زينت جيدها بدؤوا يفقدون انتماءهم لسرّها..عندما كان يقال سلمية مدينة الفكر..ثم ترفع الأقلام وتجف الصحف.
لقد ورثت من سلمية هذا الانتماء، لنقل الهذيان الشعري!..وجاءتني الجينات من أخوالي وأسلافي.. تمنيتكم أن تروا أبي حتى أحكي عن البدايات فتكتمل الحكاية.. لكنها ستبقى مجزوءة وقد رحل وأنا في العاشرة من عمري.. لن أقول رح سأقول خطفه القدر بلحظة غريبة. أبي الذي انتبه وأمي إلى أنني أتسلى بتركيب الجمل وترتيبها وفق نهايات متشابهة منذ أن بدأت الحكي ثم شيئا فشيئا وقبل أن أكمل أعوامًا بعدد أصابع اليد الواحدة صرت أركبها ضمن إطار ذي معنى فيطلقون عليه شعرا ويقولون إباء كتبت قصيدة ويضحكون ويصفقون وحين يزورنا صديق كان أبي يرفعني على طاولة خشبية صغيرة ويتباهى قائلا: ألقي لنا شعرك يا إباء..
كبرتُ.. أصبحت الطاولة منصاتٍ ومسارح.. كفّ أمي ما زال يمسك كفي ويرفعني وما زال لمعان عيني أبي زادي..فهل هو فخور كما ينبغي؟
  • عقد من الوجع السوري، ما الذي تغير في بنية نصك إباء؟ كيف انعكس هذا على الكتابة السورية عموماً وكتابتك خصوصاً؟

– يمكنك أن تسألني كم تغيرتِ يا إباء؟ وكم انعكس هذا التغير على بنية نصك وابتسامتكِ وبريق عينيك.. ومدة شهيقك.. يمكنك أيضا أن تمزج معنى الوجع السوري بالقهر والحرمان واليأس المبطن واللاجدوى يمكننا أن نتحدث طويلا عن السير بلا هدف ولا بلا طريق وكأنك تدوس وتدوس على عجلات دراجة تفلّتَ جنزيرها وتتوالى الدوراتُ الخواءُ.

يمكننا أن نتحدث عن عيون الناس المطفأة ولهاثهم المشتعل الذي يحاصرك. عن أمهاتنا وأولادنا وجيراننا وعابري الحياة والأرقام البشرية..والكيانات البشرية المتربصة بالحاويات صباحا عن البحث المستميت عن مساحة أمل نخلقها غصبا في الأعراس والمسابح والملاهي وحفلات النجاح عن انتمائنا للاستسلام والتسليم للقدر ويمكننا أن نتحدث طويلا عن مصطلح: “وبعدين!؟”
وعلى الرغم من محاولات الالتفاف والهروب الا أن كل ذلك لا بد أن يتمرّغ في نصوصنا ثم ينعكس عنه. القارئ والمتتبع للمشهد الثقافي وللأقلام السورية إن صح التعبير سيدرك تماما أنها غمست بالوجع قبل الكتابة وكل له طريقته وأسلوبه في بعث الانعكاس ودرجة إخفاء التعاسة ودرجة توظيفها لتكون قبسا ليوم قادم أجمل.. بالنسبة لي لا أفرض على نصي شيئا ..لكن كل ما يتخمر فيّ من أوجاع سيشربه القارئ يوما في نص ما وفي لحظة غير منطقية ربما.
لكني لا أنصح بالتكرار والاجترار للمساحات ذاتها..لقد أشبعنا وهنا يبرز المبدع الذي مازال قادرا على تطويع المعروف والمألوف بخيالات وتفتحات جديدة ومبتكرة.
كل العلاقات إن بنيت على أساس الاحترام تبقى سليمة وآمنة
  • هل تندمين أحيانا أنك دخلت الوسط الأدبي؟ هل أنت راضية عن ما قدمت والثقافة العربية عموما؟
– قد تفاجئك إجابتي بالقول: لا لا أندم لأني دخلت بقدم الموهبة والشغف.. هذا ما أزعمه لم أتطفل ولم أتسرع.. لقد وجدت لروحي مكانا في هذا العالم أترك مسافة أمان دائما. لا أزج نفسي في سجالات لا تعنيني. لا أقف طويلا أمام ما لا يعجبني مراقبة إياه حتى لا يأكل من راسي وأحاول أن أفرد أجنحتي في الفضاء النقي.. وأبتعد قدر ما يمكن عن كل ما قد يعكر صفو هذه المساحة؛ أحترم الجميع وأعاملهم بود وأصفق من قلبي لمن يبدع وأتجنب المتسلقين.. ولدي أصدقاء أبادلهم الدعم والفخر.. كل العلاقات إن بنيت على أساس الاحترام تبقى سليمة وآمنة وهذا ينجح معي إلى اليوم ..
إن رضيت بشكل مطلق يعني أنني أعلن النهاية.. أنا فخورة لا شك لأنني أخلص وأجتهد رغم ظروف المرأة ومسؤولياتها التي لا بد أنها معروفة؛ لكنني مطمئنة لهذا القلق الذي يثور فيّ ويثير فيّ مكامن الرغبة بالاستمرار ولهذا الشغف الذي مازال ينبض رغم كل ما أسلفت من صفعات اللاجدوى .. وأتمنى أن أتجاوز نفسي مرارا وأن أقدم تجربتي بكامل إبائها.. ربما أترك للنقاد تفصيل الإجابة عن ماقدمته الثقافة العربية.. برأيي إن هناك قامات مبدعة لا يمكن إنكار أثرها.. لكن هناك فجوة حقيقية باعتقادي مع العالمية لأسباب يطول شرحها وأخشى أن غياب سلطة الفكر النقدي والجهد المؤسساتي وهيمنة سلطة الايديولوجيات سيوسع من هذه الفجوة.
قد يعجبك ايضا