الشيخ نوح: أحلامي بلا حدود لهذا أقسّطها!

4 سبتمبر 2023

حاوره: هاني نديم

ثمة سر لغوي في موريتانيا يثير العجب، يحبون اللغة الفصيحة والشعر العربي والتراث والآداب حتى سميت بلد المليون شاعر، حيث صدّرت لنا العديد من الأسماء الخاصة والطفرات الأدبية. من بين هؤلاء الشيخ نوح، الشاعر والروائي والصحافي والكاتب الجامع. التقيته في دردشة سريعة لإضاءة ما لا نعرفه من الهوامش التي دفعت بالشيخ ليكون في مكان رفيع. سألته:

  • من البدايات شيخ نوح، كيف كانت وكيف رسمت مسارك وصرت هنا، وهل استحق الأمر كل هذا القتال؟

– الشيخ نوح رجل قذفت به للوجود رغبة الحياة وشوقها إلى نفسها، فولد دون تخطيط مسبق منه. أما بالنسبة لمساري الأدبي، فإنه لم يكن أكثر من مسار الشغف والبحث عن نار جمالية عليا كان الشعر يلوح لي بها في الأقاصي. لقد سمعت نداءات خلابة وتتبعتها، غير أنني أدركت في النهاية أني مجرد “حارس للصدى”. في الواقع تعاطيت الشعر منذ عرفتُني، سواء كان ذلك تذوقا أو كتابة، ولأمي دور كبير في شحذ حاستي الشعرية الجمالية، إذ كانت تحفظ نصوصا شعرية شعبية وتحفظني إياها، لأنها من عائلة لها في هذا المضمار أرشيف وتاريخ، كما أنها كانت آن عودتي من المدرسة، في سن مبكرة من عمري تترنم بأغان شعبية بصوتها الشجي، وهي تلمع لي أسناني بطحين الفحم. لكن هذا البلبل الذي ألقى بذور الإحساس بالفن وجماليات الحياة في أعماقي قد سكت منذ حوالي سبعة أشهر تقريبا، وهنا شعرت أن شيئا ما داخلي، غير قابل للاستبدال، قد تم قطعه، فليرحمها الله وليحسن نزلها.

إن سؤالك المتصل بتقييم المسار، وما إذا كان يستحق فعلا كل هذا الوقت، سؤال بالنسبة لي سابق لأوانه قد يجيب عليه إلا من يحجو أنه أنهى رحلته تماما، ذلك أنني ما زلت كلما تسلقت جبلا وتربعت على قمته يلوح لي جبل آخر. إنها رحلة تقترب من العدمية الخلابة، لا تسمح للمرء بالتقاط الأنفاس ليلقي نظرة إلى الوراء ويقيس ذهنيا المسافات التي قطعها، فأنا وإن كنت أكتب الشعر منذ ما يربو على عشرين عاما، إلا أن اكتشافي لإغواءات السرد خلال السنوات الأخيرة فتح لي آفاقا فسيحة لا أدري على أي غواية أخرى ستفتح هي الأخرى بدورها. سوى أنني مستمتع بالرحلة، وربما لو أتيحت الفرصة لي لأستأنف من جديد مسار حياتي لما سلكت غير هذا الطريق المتسم باحتراقاته الممتعة وفخاخه اللولبية ذات النيران الفنية التي تنبعث منها الكلمات، من أعماق القلق الوجودي، شائطة.

المشهد الموريتاني مجهول بالنسبة لباقي البلدان العربية لا سيما في المشرق

  •  بلد المليون شاعر، ما هو سر تعلق الموريتانيين باللغة العربية، وكيف تنقل لنا المشهد الأدبي عموما من وجهة نظركم؟

للموريتانيين تقاليد راسخة من جهة إنتاج واستهلاك الشعر تمتد لقرون، وقد ساهم في ذلك ارتباط التعليم التقليدي بدراسة اللغة العربية وفنونها، كما ساهمت “المحظرة”، وهي الإطار التقليدي لتدريس المعارف الدينية، في انتشار هذا الشغف بالشعر والنظم بالتحديد، لما كانت تنتهجه من تبسيط لهذه المعارف عبر نظمها. أما حديثا، فقد وجد الموريتانيون مرتكزا لهذا الشغف الشعري في تاريخهم المعرفي، فكان الأمر بمثابة استمرار حداثي لممارسة تراثية.

غير أن المشهد في البلد شهد تحولات كبيرة خلال نصف القرن الماضي، سواء من جهة تعريف الشعر على ضوء المستجدات المعرفية والاحتكاك الثقافي والحضاري مع الغرب والشرق، أو من جهة بزوغ أجناس أدبية جديدة مثل الرواية ضمن اهتمامات الموريتانيين قراءة وكتابة. وأعتقد أن هناك منجزا أدبيا مهما ما زال بحاجة إلى التعريف به وإلقاء الضوء عليه. وعموما هو مشهد يتقدم بخطى وئيدة ولكنها راسخة وثابتة، وإن ظل مجهولا لدى إخوتنا في باقي البلدان العربية، لا سيما في المشرق.

 

  • دوماً يطيب لي أن أراجع مسألة المركزية والمشارقة والمغاربة مع مثقفي المغرب العربي، في محاولة لفهم الفجوات وردمها، برأيكم هل هنالك حقاً هذا التقسيم، هل ظل هنالك مركز اليوم؟ وهل وقعت مظلومية ما جراء ذلك؟

– – هذا موضوع أسال حبرا كثيف العرامة، وفي تقديري أن الحقائق الجغرافية تنتج عنها أيضا تفاصيل اجتماعية وثقافية قد تختلف وقد تتشابه، أو تتقارب وتتباعد، بحسب التواصل أو القطيعة، كما أن لاحتكاك المنطقة المغاربية بأفريقيا وثقافاتها، وكذلك علاقاتها التاريخية والجغرافية بالقارة، أثرا في نحت ما يشبه “هوية مغاربية” تتقاطع مع المشرق وتختلف معه في بعض التفاصيل، كما أن الروافد الثقافية غير العربية؛ والأمازيغية بالتحديد، في هذه المنطقة قد تكون وراء نوع من الاختلاف الثقافي والنسقي مقارنة بالمشرق. هذا إضافة إلى التثاقف الذي عرفه المغرب العربي مع الثقافة الفرنسية مثلا في موريتانيا والمغرب وتونس أو مع الثقافة الإيطالية بالنسبة لليبيا، في مقابل التثاقف مع الفضاء الأنكلوسكسوني غالبا مع المشرق.

أما مسألة المركزية، فأعتقد أنها موضوع وارد، لا سيما في فترة مبكرة من التاريخ العربي والإسلامي، إلا أنني أعتقد أننا اليوم في عصر السماوات المفتوحة وتفكك المركزيات والثورة التواصلية بين الجميع، قد تكون هذه المركزية خفت كثيرا ، علاوة على ذلك فإن المركزية المشرقية ذاتها تبدو وكأنها تتحول جغرافيا، لا سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصعود الثقافي والاقتصادي لدول الخليج مقارنة بالمراكز التقليدية في الشام والعراق ومصر.

إن مسألة المركزية بالفعل متحولة وغير ثابتة، وإن ظلت معطى مهما في فهم بعض الظواهر الثقافية والاجتماعية. وأعتقد أن المغرب العربي ظلم قديما فيما يتعلق بعلاقته بالمركز أو “المراكز” إن صح التعبير، حيث إن ما يسمى المركز في المشرق ينقسم هو نفسه إلى مراكز وهوامش بحسب الظروف التاريخية من وقت لآخر.

 

  • خارج الكتابة، حدثني عن الشيخ نوح، أحلامه وآماله ومباهجه وأحزانه وكيف يعيش؟

– أولا، لا أتصور نفسي خارج الكتابة مطلقا، ثانيا إنني أعيش تماما كما أفكر، وأكتب كما أعيش العالم وأراه. شخص حالم أكثر من اللازم؟ ربما. أحلامي بلا حدود، ولذا أقسطها، وما إن أحقق جزء منها حتى أفعّل جزء جديدا. أما مباهجي فأنا كائن أحب المعرفة والعلم كما أحب الفن عامة؛ والموسيقي خاصة. أعشق كل موسيقى العالم، وأسمع كل ما يقع تحت أذني وأتحد به عاطفيا وروحيا، ولكن لموسيقى الريغي منبع خاص في مياه الروح، وقرة عيني السفر لبلدان جديدة والكتابة. أما عن أحزاني، فإنها ترتبط بشقاء المصير الإنساني والوجودي، وبالقلق إزاء هذا الكم من الوحشية والضراوة الذي يطبع عصرنا المريض. وأخيرا أعيش من عملي الصحفي الحر، وأنفق منه لنشر أعمالي الإبداعية، وقد غمطت الصحافة حقها في الذكر والاعتراف بالجميل منذ فترة طويلة، وأعتقد أنه قد حان الوقت لإنصافها.

قد يعجبك ايضا