اللسان.. أوّل هوية للإنسان
2 سبتمبر 2023
“تكلّم حتى أراك”، تلك الجملة التي نقولها عرضياً هي جملة محقة وتفصيلية بشكل شاسع، إذ إن الكائن هو خطابه، هو بالضبط “علاقته” بلغته. لغته الخاصة التي صاغتها تجاربه عنوةً لا لغة “سيبويه” بالضرورة. المرء صنيعة خطابه أكثر من أن يكون الخطاب صنيعة صاحبه.
الإنسان المسكين أسير “خوارزميته” اللغوية الخاصة دون أن يعلم، تابعها في الغضب والحب والتعب والانكسار والصمت، منها يُعرف وبها يشتهر وعليها تتكئ الكائنات الأخرى في التواصل مع صاحبها.
وقالت العرب إن اللسان من خدّام القلب، فيظهر على لسانه ما خفي بقلبه. لكل امرئ معجمه ومصفوفاته الكلامية، والتي مهما انتقاها تزلفاً أو مجاملةً أو كذباً، فإنها لا تخدع أحداً، فالمرء يسكب خطابه في جوف الآخر وبذات الوقت يمنحه “كود” جميع الشيفرات الدخيلة والطارئة. فأنت تعرف رموز مخاطبك بالتراكم وتبني عليها انفعالاته وماذا يريد من طرحه.
لكل امرئ زاده اللفظي الذي يأكل منه ويطعم الآخرين. ثمة سنارة من ضوء، أو من ظلام، لا فرق، تحيك كنزة المؤدّى وشال الغاية. سنارة حصيفة أو طائشة لا فرق أيضاً، تمنح المحصلة بكل صدق مهما واربت. فمن المستحيل أن تخدع أحداً بخطابك لمدة طويلة، ولهذا؛ باكراً قال زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ وإن خالها تُخفى عن الناس.. تُعلم
في كتابه “نشأة اللغة” يرى “مايكل كورباليس” أن البشر ينحدرون من الطيور وأن ما بيننا وبينهم من المشترك أكثر بكثير من بقية الكائنات، فالتكوين الصوتي للطيور من بين الصوائت ليس بهذه البساطة ويتعامل مع الجزء الأيسر من الدماغ كما لدى البشر. وأننا نتوافق مع الطير في أن لغتنا هي “انفعالية”. نقولها وقت الجوع والخطر والتزاوج ..الخ الخ، إنما الفرق يأتي لاحقاً.
الكائن هو خطابه، وهذا الخطاب يبدأ من منبع واحد ويتخذ مسارات شتى، ينثال أو ينهال إلى سواقٍ وأنساق. نستخدم جميعاً نفس المكوّنات الأساسية تقريباَ، إذ أن “الجعبة” البصرية واللغوية لكل منا تكاد تكون واحدة إلا أن “السلاح” مختلف، القماشة واحدة إنما الفرق في “المقصّ”، اللدائن الكيميائية متقاربة، التباعد في خطوط الإنتاج.
غوغان وغوخ وماتيس وسيزان كلهم رسموا الشجرة إنما لكل منهم شجرته.
الجواهري والمتنبي والمعري وأبو نواس كتبوا على البحر الكامل.. لكن لكل منهم Lego يخصه، يركبه بتكوينه الفردي ويدي تجربته.
سقراط وابن سينا وكانط وفرويد وزرادشت فسروا الإنسان إنما لكل منهم شروحه وهوامشه ومعجم ألفاظه.
السنباطي وبليغ وعبدالوهاب والقصبجي لحّنوا جميعا على مقام الكرد إلا أن لكل منهم سلماً موسيقياً لا يراه الآخر.
مارادونا وبيليه وميسي ومحمد صلاح وزين الدين زيدان ركضوا في نفس الملعب ولكن لكل رجل منهم جيشه الخاص من الفردية.
يحكى إن ملكاً في الصين جاء بفيلٍ الى مجلس وزرائه وقد وضع عصبةً على أعينهم وقال لهم صفوه! فقال من لمس أذنيه: إنه كالفراشة رقيق، وقال من أمسك بعاجه: إنه عظيم العظم والناب، أما من أمسك خرطومه فقال” إنه رخوي كدود الرزّ.
في الخلاصة.. كلنا نحيط بالفيل ولكل منا مقطعه الذي يبني عليه تصوّراته، لا يجب أن يسوق أحدنا الآخر بالعصا لمفهومه عن أي شيء! فالآخر لديه ما يرى ويصف ولديه تركيبته وجملته العصبية والإدراكية.

