لا وصايا للندم

11 سبتمبر 2023

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جهينة العوام – كاتبة من سوريا

 

في العادة يكتب الآباء وصاياهم لبناتهم وأولادهم  وتكون لكلماتهم  رنة تبرير مرتجلة، كجنرال مسالم يدرس خريطة الحياة،  ويصوغ الاستراتيجية الآمنة، لكنني الآن أجد نفسي مضطرة ان اكتب وصيتي على قبرك.

الدم يصعد الى وجهي ولا يمكنني فعل شيء لإجباره على العودة الى كثافته في كنف الأوردة والشرايين . هناك حيث يتنكر الحياء بتلقائية وخفة ، ويتصنع ان كل شيء سيكون على ما يرام ،فقد كنتَ دوماً رجلاً دقيقاً بالغ الانتظام كبندول يتأرجح أبداً بين الحب والحب.

أتمنى لو تجمعنا حياة أخرى لأخبرك عما جرى بعد وفاتك بلحظات ،لماذا نسيت أن تخبرني أن الزمن ينتهي دائما إلى وضعنا في المكان الذي لم يكن في الحسبان، فنظن خطأً أننا نستطيع الالتفاف عليه، بالاتكال على أعمالنا الصالحة ونوايانا الطيبة .

– (انتهى الأمر…(قال الطبيب لي) كلمات دقيقة، ومقتضبة مثل حكم بلا حيثيات، ولايبدو انه قابل للطعن أو النقض أو أي حلول لاحقة. (انتهى الأمر ) ورحلت يا أبي دون أن تخبرني أن الطبيعة البشرية  متهورة غادرة وغير رصينة، عاجزة عن إغلاق فمها، تلطخ العالم بتفسيرات عقيمة ومخيبة للآمال، كان عليك أن تعلم بأن السذاجة والبراءة هما الجذر الخبيث للأخطاء الأخرى، ومن يزرع الورود ، ربما ينتهي أمره ميتاً بلسعة نحلة.

ليتني كنت أهذي، لكنني لا أعرف كيف سأخبرك بما جرى بعد وفاتك ، كنت تقول ان الزمن يداوي كل شيء، نحن لا نعيش طويلا، لنتأكد، هل فعلا الزمن يداوي أم أننا نكتفي بوضع الملح على الجرح ونتظاهر اننا شفينا!

الغريب أنك لم تكن مستعدا لتولي دور المتواطئ في أحجيات الحياة الزائفة، مهما كانت النوايا طيبة والغايات مبررة، علمتني أن الكلمة والإيماءة والنظرة توائم لا يمكن الفصل بينها، لكن بعدك اتخذت الحياة مسارات لم يمكنني معها التعرف على من حولي، لم يعد بإمكاني تمييز الفرق بين الساعة والاسبوع والشهر أو السنة ،لا وجود في حياتي إلا للحضور والغياب، حضورك أنت وغيابك أنت.

سعادة الماضي ليست بالناصح الجيد، كنا ظالمين ومتهورين،عندما جعلنا من أنفسنا عرابين لفكرة (لسه الدنيا بخير يا حبيبي)، لم نفطن أن الطمع يتعايش جنباً الى جنب مع الطيبة ولكنه أسرع منها بصورة متناهية، لهذا تجد الطيبة نفسها مضحكة. الطمع يتلاعب بالكلمات هو بكل بساطة طريقة لجعلها مرئية أكثر ، بحيث لا يمكن أن تغطيتها ولا حتى ردها الى جذرها الطيب، وسترها ولو ببعض الكذب.

لا أعرف يا أبي هل ابتهج بالقليل الذي جمعني بك، أم أحزن للافراط في خيبتي بهم. كنت مشغولة بجمع فتات أحلامنا عن شجرة عمرك ،التي كانت تستبقي الليل محتجزاً بثبات بعيدا عني.

لم أنتبه لوحوش الخبث ومتصيدي الأخطاء ، واسلوبهم القاسي في تعاملها مع المبتدئة الطارئة ، ليت  بالإمكان اختراع تسمية أقل فظاظة ،أقل خبثاً، أقل وجعاً وهو يغمدون سكينهم في قلبينا.

قتلوك مرتين ، حضرت جنازتك مرتين ، قتلوني لآخر العمر يا أبتي

وهم يتلون بيانات انتصارهم ،طعنوا قلبك وقلب وحيدتك ، وطعنوا بصحة وصيتك ! تخيل لقد شككوا بارادتك وحبك ،قالوا انك عقلك لم يكن سليما،وكلماتك لا تساوي شيئاً،انت الذي عشت عمرك مكتفياً بي ،تدللني تدلعني تغنجني ،انت الذي بكيت على حضنه من علاقاتي العاطفية الفاشلة ومسحت دموعه في تخرجي وزواجي وعند ولادة ابني الأول ،لقد سمحوا لأنفسهم أن يسلبوني اياك ،كنت أخوهم فقط ،حقهم المالي فقط . بدا هدوئي حقيقياً ، مع انه لاوجود له في الحقيقة، لكنني لم اكتشف أسلوباً آخر للتعبير عن استسلامي مع قدر ممكن من الكبرياء ،مهما كانت الكلفة التي سأدفعها لأعتاد وجوه أعدائي الجدد.

ليتهم تحلوا باللياقة الأخلاقية،وكشفوا لك وجوههم التواقة لاغتيالك،لكان ذلك أنبل بكثير.

انا الان بانتظار الحكم ، بانتظار أن يقاسموني بيتي وذكرياتي معك والمزرعة وأرجوحتي والسيارة التي كنت فخورا بي لقيادتها في سن مبكرة ،يقولون انهم لا يورثون الغريب  زوجي وابني(حفيدك) الذي كان منافسي الوحيد في قلبك، و كنت تفاخر انه انزلني عن الرف

الانتظار يؤدي الى ماهو أكثر من ابطال المفاجأت ، انه يخدر الانفعالات ، فكل ما نتمناه أو نخشاه  نكون قد عشناه خلال تمنينا أو خشيتنا منه.

الطبيعة البشرية مصنوعة بطريقة غريبة جدا يمكن معها لأشد حركات القلب  صراحة وتلقائية  أن تكون غير مناسبة ،في حالتي  نعم بدا لي من غير المناسب ان اتنفس ،أو تجري الدماء في جسدي المتلاشي، إهانة كبيرة حضور جدل يدور ضدك مباشرة ، ولكنك لا تستطيع التدخل فيه ، ربما لأن الفم في حالات كهذة عضو محط ثقة أكبر كلما احتفظ بالصمت .

لا يوجد ما يستحق عناء الكلام وإضاعة الوقت، واستهلاك اللعاب لصياغة أقوال، جمل، مقاطع صحيحة، في حين ما أفكر به حقيقة هو استنفاذ كأس المرارة حتى العدم.

افتراضات فظيعة  واستنتاجات ملطخة بالسم و ماهو أسوأ من ذلك، تكهنات مؤكدة  اذا ما اخذنا  الوقاحة والعهر اللذين تزدرى  بهما في قصص من هذا النوع جدران  القلوب. لن أسامحهم لأنهم سلبوا مني حزني عليك، سحبوني الى درب آخر ، لم يتركوا لي أن أحزن عليك كما ينبغي، أن أودعك كما يليق بالحياة التي عشناها معا، اغتالوا حزني يا ابتي، كيف لم يخطر ببالنا أن الذئاب كانت تتربص بنا، هل كان  من الممكن لنا في أيام متباعدة أن نحتفي باستثناء نادر في عالم تكرار الخيبات المفجعة!

الخصومة معهم كانت على ما يبدو منذ زمن طويل، يوم اكتفيت طائعاً بي كوريثة وحيدة، أنت الذي لم تصطدم مرة واحدة بجسدك كنت حرا طوال الوقت تزرع مساكب الزنابق البرية، وتمد جسور الرضا صوب كل شيء .

لم يعترضوا ولو لمرة واحدة خطر المظاهر انها تخدعنا وتكون الخدعة على الدوام نحو الأسوأ، لا يمكن للحكم حتى ولو كان لصالحي أن يقلل مرارة الغد  ولا يمكن لهذا الماء أن يعدني بالارتواء .

لست طموحة لدرجة أن لا أخطئ أبداً، ما أريده هو ألا أخطئ هذه المرة .

 

قد يعجبك ايضا