20 سبتمبر 2023

جهينة العوام – كاتبة من سوريا
الشتاء في زمن بعيد كان له هيبته، يأتي بكل خيره ومؤنته وبركته يحط رحاله ويمارس طقوسه بأدق تفاصيلها، يفرض حظراً للتجول أياماً عديدة، لكنه كان رحوماً دافئاً، حكيماً يترك خلفه دروساً في الحب والصبر.
تلك الليلة ظلت تمطر طيلة الليل مما منع بدلة المدرسة أن تجف، كان اللباس الالزامي في تلك الأيام عبارة عن بدلة زرقاء للمرحلة الإعدادية (جاكيت طويلة نوعا ما للفتيات وبنطال مع حذاء أسود حصراً، وأي خلل كان يستوجب العقوبة التي تتفنن مدربة الفتوة أو الموجهة بابتكارها، بشكل ما كان نظاماً عسكريا والمدرسة تكاد تكون ثكنة ابتداء من اللون الصحراوي لجدرانها و الذي ينذر بزوابع من الغبار مع اننا في قلب الغوطة، الحديد الأسود الذي يسور الممرات من الداخل، الصفوف المطلية بالرمادي، والمقاعد الخشبية المزدحمة بذكريات طلاب تعاقبوا عليها، والكادر الإداري الذي تغلب على أعضائه “العنوسة”، ولأن المصائب لا تأتي فرادى كانت الكهرباء مقطوعة وبالتالي فالمكواة التي كانت حلاً اسعافياً شطبت من لائحة الفرج، فحاولت تجفيف البنطال على الصوبيا وهذا التكنيك كنا نستعمله أحياناً، في حال كانت المكواة معطلة أو نضع البنطال في حال كان جافاً تحت الفراش ونسحبه في اليوم التالي خالياً من “الجعلكة”.
ثنيت البنطال وأحطت به المدفأة الحديدية الدائرية، لكن على الفور انتشرت رائحة حريق، البنطال كان من قماش سريع الاحتراق فظل نصفه عالق بالصوبيا وما تبقى لم يكن كافياً حتى ليمسح دموعي، بكيت على البنطال وعلى امتحان اللغة العربية، فلا أعرف ان كانت مصيبتي تشكل عذراً مقبولاً عند المعلمة.
نظرت أمي بحزم وأمرتني أن أكمل تجهيز نفسي بينما تتدبر الأمر، وضعت شالا على رأسها وخرجتْ مسرعة تحت المطر، لم أشك في أنها ستفعل، فقد كنا جميعا على قناعة ان لديها ما يشبه مصباح علاء الدين يحقق أمنياتها بامتيازات متواضعة لكنها غالباً تفي بالغرض.
بعد وقت قصير عادت والدتي منتصرة أعطتني كيساً بعد أن مسحت قطرات المطر عنه (بخرقة جافة)، طرت من الفرح وأنا أمسك بدلة بمقاسي تماماً، لكنها أجمل وأكثر أناقة وجودة من بدلتي القديمة، أذهلتني المفاجأة وتمنيت لو أن البنطال احترق منذ بداية العام الدراسي ،فقد بدء الفصل الثاني منذ أسابيع ،بكل الأحوال كانت سعادتي كبيرة وركضت الى المدرسة ،خفت على بدلتي من قطرات المطر واحتميت تحت المظلة السوداء التي تعود لوالدي، قفزت متجاوزة الحفر وركضت مبتعدة عن السيارات المسرعة التي تفرش المياه لمسافات بعيدة.
حين وصلت كان باب المدرسة على وشك الاغلاق، استقبلتني الموجهة، خيل إلي أنها كانت تصوب نحوي رشاشاً ويدها على الزناد، أطلقت كلاما غاضبا كريهاً لا يتناسب مع ذنب التأخير في يوم شتوي عاصف، قالت أشياء كثيرة، لكنني كنت في الحقيقة انتظر اللحظة التي أدخل فيها الشعبة “متمخترة” ببدلتي الجديدة. الموجهة عاقبتني مع الطالبات المتأخرات عن الاجتماع الصباحي وأمرتنا بتنظيف الباحة من القمامة، بعد إتمام العقوبة، دخلت الى الصف، حيث المعلمة انتهت من توزيع أوراق الامتحان بينما عيون الطالبات معلقة بالأسئلة المكتوبة على السبورة ولا مجال لرؤية أي شيء آخر، فدخلت كشبح خفي لم يلاحظني أحد.
عزيت نفسي، فما زال أمامي (الاستراحة) وهذه فرصة أكبر إذ باستطاعتي قطع الباحة خلالها ذهابا وإيابا ألف مرة ببدلتي الجديدة.
وبالفعل رن الجرس وخرجت مع صديقتي التي باركت لي بمحبة البدلة الجديدة.
كل الطالبات يخرجن في الاستراحة الى الباحة، لتبادل الأحاديث أو حل الوظائف، أو قراءة درس ما، أو لشراء الساندويش والشيبس أو العصائر، طبعا لم أكن من الفتيات اللواتي يحصلن على مصروف، فهذا التقليد غير معترف به في أسرة من 10 أشخاص تمشي “الحيط الحيط” ولا تطلب أكثر من الستر، ولا شيء يستدعي الاستعراض فسندويشة اللبنة أو الزيت والزعتر خير ونعمة زايدة.
في الغالب كانت هناك مجموعات أو شلة تحجز مكانا دائما ومعروفا لها، وبسرية تامة تتبادل الفتيات مجلات وكتب أو تخرج احداهن رسالة غرامية وتقرأها بغرور أمام رفيقاتها، وربما يتحدثن عن مسلسل السهرة، أو يتنافسن بالتصويت على صور الممثلين والمطربين ، لم أحب الانتساب الى أي جماعة منهم واكتفيت بصديقة او اثنتين ،خصوصا عندما منحني خالي إذنه باستعارة أي كتاب من مكتبته أحسست بجرعة عالية من الثقة بالنفس والتميز،من جهة ثانية لم يكن لدي أسرار عاطفية ولا تغييرات جسدية ظاهرة ،ولم تسمح أمي لي ولأخوتي بالسهر لنشاهد مسلسل السهرة ،فغرفة التلفاز كانت متاحة فقط وقت برامج الأطفال أو البرنامج التعليمي.
فجأة نادتني من مسافة ليست قريبة، احدى فتيات الصف (نيفين) قالت لي: مبروك البدلة! ثم ضحكت ضحكة ساخرة وسَاندتها شلتها بضحكات أعلى وأكثر سخرية، كن جميعا ينظرن إلي، لم أفهم ما جرى، استغربت وأحسست بالغضب والكره والحيرة، (نيفين) فتاة تحسب على الأغنياء لكن ذكاءها محدود فقد كانت علاماتها ضعيفة لكن مكانة أسرتها في المدينة وتبرعاتهم استحدثت لها كلمة مسموعة في الشعبة ومعاملة مميزة ومتساهلة من قبل الإدارة، زارتني في منزلي مرتين كي أساعدها بكتابة مواضيع التعبير الأدبي ولم أردها خائبة، غرورها وتسلطها كانا كفيلين بهدم أية صداقة محتملة.
عادت نيفين تنادي، لكنها أشارت لصديقتي التي ترافقني وقالت أنها تحتاجها بموضوع.
ترددت صديقتي ثم ذهبت اليها، فوشوشتها نيفين في أذنها، بضع كلمات تراجعت بعدها نيفين للخلف نظرت إلى شلَتها، بدت لي كأنها تتقصد إعادة ذات الضحكة والسخرية، كن جميعاً ينظرن تماما الى وجهي، أحسست بشيء من المرارة والقهر، بينما كانت صديقتي تمسك يدي وكأنها تطلب مني أن أدير ظهري لنيفين وشلتها، بالفعل تابعت المشي وأنا أحاول مواساتها، قلت لها:
ماذا قلت لك تلك المريضة ال..؟
لكن صديقتي قاطعتني وقالت:
لقد أخبرتني ان بدلتك كانت لها، وأن أمك ذهبت اليهم صباحاً تحت المطر لتشحذ بدلة، وأنه كان يجب عليكِ أن تشكريها.
تلك اللحظة تمنيت لو استطعت الصراخ والبكاء ومعاتبة الله وقتل الفقر، تمنيت لو أستطيع صفع نيفين على وجهها. لكني مشيت باتجاهها ابتسمت وشكرتها على البدلة وقلت: شكرا لولاك لكنت خسرت أعلى علامة بالعربي .
أكملت طريقي نحو الحمامات، مع انها لم تتمتع بالنظافة ولا الخصوصية إالا انها تكفلت بحجب دموعي خلف باب أكله الصدأ وغابت معالمه مع كثرة الكتابات التي خطتها الطالبات..
النظافة من الايمان، الحب كله، العلم نور. الطير يرقص مذبوحا من الألم، إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه.. وأشكال قلوب وحروف، لو كنت أحمل طبشورة أعتقد اني كنت سأكتب شيئا ما لجبران..
كانت تلك أول وآخر مرة أدخل فيها الى حمامات المدرسة.
بعد أسبوع على تلك الحادثة، أجلت معلمة الفيزياء الامتحان الى الأسبوع الذي يليه بناء على رغبة نيفين التي لم تحضر جيدا لأنها كانت تحضر حفلة عرس قريبتها، استنكرت أغلب الطالبات التأجيل لأن ذلك يجعلنا تحت ضغط 4 امتحانات بأسبوع واحد، فليس من العدل الانصياع لرغبة طالبة مستهترة، بالطبع كان قرار التأجيل مبرما وقاطعا لم تستطع محاولات غادة صاحبة المركز الأول على المدرسة كلها، لإقناع المعلمة فعادت غاضبة الى الشعبة، حيث وجدت نيفين تضحك ساخرة وتستفزها بكلمات وتصرفات وقحة، لم تستطع غادة التحكم بأعصابها فصفعت نيفين على وجهها.
ثارت نيفين وركضت باتجاه الإدارة وهي تتوعد غادة بالفصل والانتقام، وعادت بصحبة الموجهة التي كانت تحمل مسطرة خشبية ونادت على غادة حيث ضربتها مسطرتين بكل قوتها.
لم تذرف غادة أي دمعة، ولو كانت القلوب مرئية، لأقسمت ان كان باستطاعتي رؤية غادة كانت تتربع داخلها بما في ذلك شلة نيفين نفسها.
أحسست بسعادة كبيرة، قلت لغادة من الطبيعي أن تضرب مدرسة أو موجهة طالبة ما، هذا حدث يومي على أيامنا، أما تلك الصفعة فستظل نيفين تتذكرها طوال عمرها.
مضت الأيام ومرت أكثر من عشرين سنة على الحادثة، حين رن جوالي وسمعت صوت يسار التي اتصلت وعرفت بنفسها أخبرتني أنها حصلت على رقمي من صديقة مشتركة وأنها مشتاقة وتود زيارتي والحصول على توقيعي على روايتي الأخيرة، بالفعل زارتني وكانت زيارة لطيفة، أهدتني شالاً نسجته بنفسها وكنت طوال الوقت أسأل نفسي هل نحن نسامح فعلاً، ما هو السماح؟
ما يحدث فعليا هو أن الحياة تدهشك بمستويات الشر والوجع التي تنتظرك يوما بعد يوم، في كل مرة تتعرف على نموذج جديد من البشر (قال لي مرة صديقي ان أصل كلمة بشر = به شر) وهذا منطقي فكلما مررت بخبرات وتجارب جديدة كلما قلت في سرك (الله يرحم هديك الأيام والشر تبع هديك الأيام) فتسقط الحوادث السابقة لا لأنك نسيت وتقبلت بل لأنك وجدتها لا تقارن بما جربته واختبرته من شرور وآلام لاحقة، فتشطب اسم أشرار الطفولة والمراهقة والحارة من لائحتك السوداء لا بل في لحظات ما تحن الى تلك الشرور الصغيرة. لم يكن إحدى خياراتك أن تذيق الآخرين من مرارة الكاس ذاتها لأنك تدرك أن ذلك لا يشكل فرقاً لديك.
