23 سبتمبر 2023
* سامح محجوب يكتب :
مرت الأغنية المصرية الرسمية في القرن العشرين بثلاث نقلات مفصلية،
الأولى كانت على يد أحمد رامي وبديع خيري وبيرم التونسي ومحمد يونس القاضي، الرباعي الذي حرّر الأغنية المصرية من حالة البذاءة التي كانت مفروضة عليها من أماكن وحالات تلقّيها فمن “ارخي الستارة اللي في ريحنا” إلى ” “الصب تفضحه عيونه ”
ومن “أوعى تكلمني بابا جاي ورايا” إلى “رق الحبيب”
ثم كانت النقلة الثانية الأكثر وضوحًا ومصرية على يد حسين السيد ومأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وعبدالفتاح مصطفى وفتحي قورة وإسماعيل الحبروك وسيد مرسي وأمين عزت الهجين وسمير محجوب وحيرام الغمراوي، إلى آخر هذا الجيل العظيم الذي جسّد بكلماته الروح المصرية بكل زخمها وتنوعه وحافظ على بقاء الأغنية فى المنطقة الآمنة أخلاقيًا بما يناسب كل طبقة ، مع السماح بمرور بعض الإيحاءات الجنسية مستترة بمجاز شفيف! كأن تغني هدى سلطان من كلمات فتحي قورة وألحان محمد فوزي ( رمّان الجناين يا اخضر .. رمّان الحبايب طاب )
والأمثلة على هذا النوع أكبر من أن تحصى، وقد تغني بمثل هذا المجاز الجنسي المستتر كبار مطربي مصر والوطن العربي .
إلى أن جاء الأبنودي وعبدالرحيم منصور ومحمد حمزة ومجدي نجيب وحسن أبو عتمان وصلاح أبوسالم وعلي مهدي وغيرهم لينتقلوا بالأغنية إلى مرحلة ثالثة أكثر تحمّلًا للشعر الكثيف مجازا ولغة، مستفيدين من الطاقة الهائلة للموروث الشعبي المصري الذي ظل حبيس المشافهة داخل المناسبة والجماعة الإنسانية التي أنتجته، ومن المعروف أن معظم من سبق ذكرهم من شعراء الموجة الثالثة قد تناصّ مع هذا الموروث وأكل وشرب وسِكرَ على مواويله وأهازيجه ومربعاته ! وإن لم يصرّحوا بذلك ! لكنهم على أية حال قد أنقذوا بعض هذا الموروث من الاندثار .
هذه مقدمة ضرورية للحديث عن حسين السيد الذي يظلمه بعض مؤرخي الأغنية المصرية انتصارًا لمجايله مرسي جميل عزيز الذي يشكّل بمفرده حالة استثنائية في كتابة الأغنية، لا تنفي بأي حال من الأحوال عبقرية وتفرد وريادة حسين السيد للنقلة الثانية للأغنية المصرية والعربية من حيث التنوع والإنتاج والحضور والموضوع وطريقة الصياغة القريبة للوجدان المصري العميق في بساطته وتلقِّيه للصورة الشعرية .
فمنذ ألتقطه عبدالوهاب ليشارك فى كتابة أغاني فيلم ( يوم سعيد ) بأغنية ” اجري اجري اجري .. وديني أوام وصلني ” وحسين السيد أصبح الشاعر الأعلى صوتًا والأكثر حضورًا فى “طبخة” الفيلم المصري على مدار عدة عقود كانت فيها الأغنية إحدى أساسيات الموقف الدرامي ، الأمر الذي أعطى حسين السيد – ربما من غير قصد – مساحات شاسعة من الكتابة غطت كل ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من مواقف عاطفية وإنسانية ووطنية ، ويمكن ببساطة رصد هذا الثراء والتنوع من خلال موضوعات ومواقف هذه الأغنيات ( شكل تاتي ، أمورتي الحلوة ، كعب الغزال ، الراجل ده هيجنني ، خمسه فى سته بتلاتين يوم ، صوت الجماهير ، عاشق الروح ، قولي حاجة ، ابجد هوز ، حمّال الأسية ، يا ابو ضحة جنان ، دار يا دار ، ست الحبايب ، بسبوسة )
أذهب كما تشاء وأسمع فى كل لون ولكل مطرب وقطعًا سوف تجد نفسك تردد بعض كلمات حسين السيد الذي يعدّ جيلًا بمفرده كمًّا وكيفًا وتنوعًا وزخمًا فنيًا على مستوى المجاز والمخيلة واللغة والأسلوب ، بل ويعدّ صاحب مدرسة ومنهج خاص جدًا فى صياغة العادي والمتاح ومنحهما حيوات فنية ثرية، فى مفردات وجمل قصيرة بطعم الحياة فى صورها الملونة .
ومن هنا يمكن القول باطمئنان كبير أن حسين السيد الشاعر الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الوجدان المصري والعربي على مدار قرن كامل .
* شاعر وإعلامي مصري