تعالوا فلننتصر على أنفسنا.. كوريا نموذجاً!

18 نوفمبر 2023

مع انفتاح العالم على بعضه بعضاً بسبب الهجرات والنزوحات والانتقالات الديموغرافية التي حدثت في العقد الأخير، ازداد اليقين لدينا كعرب بأهمية العلوم الجديدة وانقطاعنا عنها وأهمية أن نكون مؤهلين وقادرين على التعامل مع العالم بالعلم والعمل والحيوية الداخلية التي ترتكز على أهداف ومنطلقات وأسباب ونتائج.

سيقول قائل: لم يترك لنا الوضع الاقتصادي المتردي والأنظمة الشمولية فرصة الاهتمام بغير لقمة العيش، سأجيبه مستشهداً بقصة كوريا الجنوبية، تلك البلاد العظيمة التي نجت من حالتها المتردية اقتصاديا واجتماعياً وثقافياً بعد حرب أهلية ضروس لم تبق ولم تذر.

بعد الكوارث والحروب لا تبدو هنالك حلول متاحة إلا من داخل المركز المتصدع، هذا ما أثبتته دولٌ عظمى أبيدت عن بكرة أبيها وعادت إلى الحياة، كاليابان وكوريا وألمانيا. كيف سنستوعب الدرس في بلادنا؟

بعد عودتي من كوريا الجنوبية، تلك البلاد التي تحولت من تحت الردم إلى سدّة البلاد بسنوات قليلة، كتبت في دفتر ملاحظاتي:
يصرّ الكوريون على وصف “معجزتهم” بأنها نتيجة “طبيعية” لشعب ملتزم وعنيد ومواكب! ولا بد وأن تسمع خلال رحلتك قصص كثيرة تلخص كيف بنى المواطن الكوري تلك البلاد مستفيداً من المنح والمساعدات الإنمائية الدولية ويوظفها في القضاء على الجهل والفقر المدقع لتهيئة مواطن جديد قادر على أن يبني الوطن.

مع انتهاء الحرب الأهلية عام 1953 كان هنالك أكثر من 800 ألف كوري بين ميت ومفقود، وانفصلت 8 ملايين عائلة، كما تم تدمير 610 ألف منزل الأمر الذي يعني إعادة بناء كل البنى التحتية لكوريا. خلال تلك المرحلة عمل الكوريون في كل شيء وتوزعوا على بلاد العالم، ولم يأنف الكوري من العمل في مناجم ألمانيا على سبيل المثال براتب 150 دولار، للنهوض باقتصاد بلادهم في الداخل، توزعوا على خرائط العالم ليدعموا الاقتصاد، كما عمل من هم بالداخل بالتوازي، لتنتقل البلاد من أرتال تقف من أجل حفنة رز إلى اقتصاد عالمي مرعب.

فعلياً، بدأت نهضة كوريا الجنوبية عام 1961 حينما تولى “بارك شونج” حكم البلاد بصرامة وحزم وقطع يد الفساد تماماً، حيث وضع أسس العمل والانضباط وأساليب التعليم والتربية لتقطع البلاد شوطاً كبيراً خلال سنوات حكمه وتصبح لاحقا تسمى بـ”معجزة اقتصادية على نهر الهان كانج” وفي التسعينيات بدأت ملامح تلك النهضة تتبلور وتأخذ مسارها “التقني” والذي حولها اليوم إلى رابع مصدر للسيارات وأول صانع للناقلات وثالث مُصدر للإلكترونيات وارتفع متوسط الدخل فيها إلى 33000 دولار ومتوقع أن يتجاوز الـ90 ألفا في عام 2050!

تفرق الكوريون في البلاد ولكنهم اجتمعوا على سر تلك الوصفة السحرية لنجاحهم المبهر، حيث يجيبونك بصوت واحد: السبب هو الانضباط المتناهي والإخلاص في العمل وحب الوطن، طبعاً إلى جانب نظام تربية وتعليم متقدم. أحدهم قال لي: الوطنية والتعليم والتعليم والتعليم.
وترتكز رؤية كوريا على ست قيم أساسية هي: السلام، حماية البيئة، التنوع، الحرية والمساواة، والتطبيق والمشاركة.

على هامش الدفتر، وضعت ملاحظات سريعة كوصفة للتعامل مع الكوريين:
• إذا كان موعدك مع الكوري 7 صباحاً، تعال 7 صباحاً لأن تأخرك خمس دقائق يعني كارثة.

• المنحوتات في كل مكان، مخزونك البصري الجمالي لن ينقطع من العمارة والنحت والتشكيل والهندسة والتقنية، مع مزج هائل بين الحداثة والتراث، إنهم يمضون قدماً دون أن ينسوا تراثهم على الإطلاق.

• كعادتي، أضعت مفتاح غرفة الفندق “الكارد”، إذ أنني أضيّع هويتي الشخصية بمعدل مرة كل عامين، هبّ طاقم الفندق كلّه على وقع تلك الخبرية وفتحوا تحقيقاً دقيقاً وقاموا بـ”نكش” ذاكرتي بكل الوسائل لمعرفة أين ذهب المفتاح، ولم يقبلوا أن أدفع تعويضاً و”انفضّت يا عرب” إذ لم يكن وقتها عرب هناك. ثم أعطوني مفتاحاً جديداً على مضضٍ وتوجّسٍ وريبة.

• لم أفتح حقيبة ملابسي فتحةً كاملةً طوال الرحلة، إذ علينا الانتقال بين 6 مدن في عشرة أيام، للإحاطة بكل ما يجري في كوريا بوقت واحد.

• ممنوع الدخان في الشارع، أكرر: في الشارع ممنوع التدخين، هنالك كل 1000 متر غرفة زجاجية كالتي في المطارات مخصصة للتدخين، وبجانبها غرفة للكراسي المتحركة والعكاكيز لمن يتعب في الطريق، وفيها علب إسعاف أولية تحسباً لأي طارئ.

• يستيقظ الكوري 6 صباحاً يظل يتحرك إلى 10 ليلاً وينام فوراً دون تصبح على خير.

• عقب السيجارة الذي دخنته خلسةً و”معسته” في حوض الزراعة مقابل الفندق، نبشه الكوري واقترب مني وابتسم لي وحياني منحنياً ورماه في سلة القمامة.

• في زيارتنا لكوريا الجنوبية قبل هذه الزيارة بعامين؛ أثناء اجتماع صحافيي العالم ومن ثم رابطة صحافيي آسيا، كان لزاماً علينا أن نزور مدينة السينما في بوسان والتي بات الكوريون يفخرون بتقدّمها وتقديمها للثقافة الكورية كقوى ناعمة تعادل “سامسونج” و”ال جي” و”هيونداي” و”كيا موتورز” بل وتزيد..

• منذ مدة تعمل كوريا على قوتها الناعمة وتسريب ثقافتها المحلية عن طريق كل الوسائل، وقد تنبّه الكوريون إلى أهمية تعديل حضورهم الفني ودعم المشاريع السينمائية الكورية، فوضع شرط على دور السينما الكورية يقتضي أن تعرض أفلام كورية بما نسبته “الخمس” بالحد الأدنى، أي ما يزيد عن 70 يوماً في السنة، وهذا الأمر أجبر شركات الإنتاج ودور السينما على تقديم منتج فني منافس وجديد في سبيل تعميم حالة الثقافة المحلية ورفع نسبة حضورها المحلي والعالمي. (مع كتابة هذه الأسطر فاز فيلم Parasite بجائزة أفضل فيلم في حفل الأوسكار، الجائزة التي تمنح لأول مرة لفيلم غير ناطق بالإنجليزية في تاريخ المهرجان.

• في مشهدٍ لا يتكرر ولا يمكنني أن أنساه، في إطلالة على ميناء بوسان التجاري ترى صباحاً السفن الهائلة قوافل وراء قوافل وأساطيل تسبق أساطيل بما يذكرك ببيت الشعر العربي الحلمنتيشي الذي يقول: “ملأنا البر حتى ضاق عنا ووجه الماء نملؤه سفينا”، فترى السفن التي تغطي عين الماء تنطلق من كوريا نحو العالم، سفن محملة بمنتجات “هيونداي، سامسونج، إل جي، كيا موتورز، سانغ يونغ، دايو..الخ”. هذا المشهد اليومي أصبح مزاراً سياحياً للكوريين للمفاخرة والتحفيز وإعطاء الدروس للشعوب الخاملة!

قد يعجبك ايضا