14 يونيو 2023
إيمان إبراهيم- بيروت
بعد رحلة استمرّت 5 سنوات، انتهى مسلسل Manifest، واضعاً نهاية مفتوحة صادمة وغير متوقّعة، لركّاب الرحلة 828، الذين سافروا في رحلة عادية، قبل أن يكتشفوا أنّهم أمضوا بين السّماء والأرض سنوات طويلة، تغيّر بعدها كلّ شيء.
فبعد شرائها حقوق عرض مواسمه الثلاثة من شبكة NBC الأميركية، التي أنتجت أول حلقاته عام 2018، نجحت “نتفليكس” في تقديم مسلسل يتميّز بإيقاع متماسك ونهاية ملحمية.
هذا المسلسل يطرح تساؤلات كثيرة تدفعك إلى التأمّل.. ماذا لو صعدت على متن طائرة في رحلة قصيرة، لتفاجىء عند هبوطك أنّ رحلتك لم تكن قصيرة، وأنك قضيت بين السماء والأرض خمس سنوات ونصف لم تشعر فيها بالوقت، وأنّ عائلتك وأحباءك ظنوا أنّ طائرتك اختفت وأنك والراكبون معك في عداد المفقودين؟
يبدأ المسلسل حين تقود الصدفة بعض المسافرين إلى تغيير موعد رحلتهم من جامايكا إلى الولايات المتحدة، تسير الرحلة بصورة طبيعية إلى أن تتعرض الطائرة إلى مطب هوائي وبرق قوي، يشعر معه المسافرون أنّ الطائرة ستسقط، وأنّهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة، إلى أن تهدأ العاصفة وكأن شيئاً لم يكن، ويستكملون رحلتهم.
وعندما يصلون، يكون في استقبالهم ضباط وعناصر من الشرطة، ليخبرونهم أنّ طائرتهم غادرت قبل سنوات، وأنّهم سجّلوا أمواتاً بعد اليأس من العثور عليهم.
يجد المسافرون أنفسهم أمام الواقع الجديد، أنّهم عائدون من الموت، أو من شيء مبهم يشبه تجمد الوقت بالنسبة إليهم، في حين أن أحباءهم عاشوا سنوات خمسة وهم يرثونهم.
تفاجىء المسافرة العائدة بوفاة والدتها، وزواج خطيبها من صديقتها بعد سنتين من فقدانها، على غرار ما حصل مع توم هانكس في فيلم Cast away، عندما نجا من تحطم طائرته، وبقي سجين جزيرة معزولة سنوات، عاش فيها على أمل الخروج للقاء زوجته من جديد، ليفاجىء بأنّ هذه الأخيرة تزوجت بعد رحيله وأنجبت طفلة.
تثار في هذه المواقف تساؤلات من عيار هل الارتباط بعد وفاة الشريك خيانة؟ وكيف يتعافى الحبيب من فقدان حبيبه بمثل هذه السهولة؟ وكيف يكمل حياته وكأن شيئاً لم يكن؟ ليضعك أمام الإجابة الحتمية أنّ الحياة لا تتوقف سوى عند الأموات وبعدهم تكمل وكأنهم لم يكونوا.
يعود الطفل ابن العشر سنوات ليجد شقيقته التوأم وقد أصبحت مراهقة، أما هو فظلّ طفلاً لم يمرّ عليه الزمن، تنتقل علاقتهما من المشاحنة والكيدية، إلى علاقة يشوبها الكثير من الحنان.
يجد الزوج زوجته وقد ارتبطت برجل آخر بعد سنتين من رحيله، رجل تولّى بدوره رعاية الإبنة التي ظنّت أنها فقدت والدها، فتبدأ مشكلة من نوع آخر، استعادة العائلة التي تشظّت برحيل الأب، وانسلاخ الطفلة من جديد عن رجلِ ظنته بديلاً لوالدها.
مواقف كثيرة وقصص منوّعة، لكل راكب قصة، تضعنا أمام حقيقة أنّنا عندما نرحل يكمل الآخرون بدوننا، وحدهم من يشعرون بالألم ولا يتجاوزون رحيلنا هم أفراد العائلة المقرّبون.
حين أنتج المسلسل عام 2018، لم يكن إيقاع العالم يترنّح تحت أحداث ومتغيرات متلاحقة ومتسارعة، تجعلك تسأل، ماذا لو صعدت إلى الطائرة قبل خمس سنوات وعدت اليوم؟ أي تغيرات كنت ستلمس؟ عالم يعيش أزمة اقتصادية خانقة، وسوف يخبرونك عن وباء أقفل الكوكب سنتين، وأرغم سكانه على ارتداء الكمامة والتباعد، وقتل الكثيرين، قبل أن ينتهي بصورة غامضة وربما لم ينته.
وسوف تلمس بنفسك تداعيات الاحتباس الحراري، جفاف ودرجة حرارة مرتفعة جدا في أوروبا، حرائق تلف الغابات في كل دول العالم، وصقيع يلف دولاً لم تعرف يوماً البرد.
وسوف تشهد انهيار الاقتصادات الكبرى، وحديث عن أن أوروبا التي كانت تنعم بالرخاء، تترنّح تحت وطأة الحرب الروسية الأوكرانية والأزمة الاقتصادية الخانقة.
خمس سنوات ونصف، تختفي فيها وتعود لترى وجه العالم وقد تغيّر وكأن السنوات التي مرّت لم تكن خمسة فحسب.
بالعودة إلى المسلسل، فإنه لم يقارب الأمور إلا من ناحية الدائرة الضيقة المتعلقة بكل مسافر، مع حقيقة علمية ضائعة، وعلامات استفهام حول تورّط أجهزة المخابرات في إخفاء الطائرة وإعادتها بصورة غامضة والتجارب التي أخضع لها الركاب الذين اكتشفوا بعد عودتهم أنّهم باتوا يتمتعون بقدرات خارقة، يتوقعون أحداثاً قبل حدوثها، يرشدهم صوت داخلي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إشارات تبدو غامضة لبعضهم.
أيضاً يدعوك المسلسل إلى التأمل بهذه القدرات الخارقة ماذا لو امتلكناها؟ هل نحن محظوظون لأنّ القدر يفاجئنا بيوم حلو ويوم مر، وأن الجهل فيما سيحصل في المستقبل نعمة؟ أم أنّ امتلاكنا لحاسة سادسة تمكننا من تفادي الضرر قبل وقوعه كانت لتجعل حياتنا أكثر سهولة وتجنبنا الكثير من الويلات؟
يضعك المسلسل في مكاشفة مع نفسك، مع احتمالات كثيرة تدفع إلى إعادة تقييم الصورة التي تسير عليها حياتك من جديد، مع أداء ممتع للممثلين ميليسا روكسبورغ بدور ميكيلا المحققة التي كانت على متن الطائرة مع شقيقها بن الذي يلعب دوره الممثل جوش دالاس.
الموسم الأول شاهده عبر NBC أكثر من 12 مليون مشاهد والموسم الثالث فشاهده خمسة ملايين، أما الموسم الرابع فمرّ دون ضجّة يستحقّها العمل، لأنّ القصص المعقّدة عندما تتعقّد أكثر من اللازم، تشعرك أنّك أمام معضلة حقيقية، تكمن في أنّ الكاتب فقد قدرته على فكّ عقد قصّته، وطرح أسئلة عجز عن الإجابة عنها، وأنّ الحلول المطروحة قد لا تكون بمستوى العقد، إلا أنّ المسلسل في حلقاته الختاميّة كان مدهشاً، ذكياً، يحثّك على التفكير بأنّ تفصيل صغير، دقائق ضائعة، أقدار تتغيّر بمحض الصّدفة، كانت لتسيّر حياتك على غير ما هي عليه اليوم.
ويبقى أنه من المثير مشاهدة مسلسل يحثّك على التفكير ويحفز مخيلتك ويجعل تتساءل ماذا لم ركبت طائرة وهبطت على سطح الأرض بعد خمس سنوات؟